مبروك لفرنسا حريتها المستعادة وشرفها الذي استنقذ وحفظ من كل دنس!
مبروك للدولة العظمى – سابقاً – وهي تخرج من زنزانة “اللجوء السياسي” إلى الهواء الطلق في البلد الذي “اخترعته” قبل سبعين سنة، وأقامت له جمهوريته الأولى قبل نصف قرن، ثم أمضت عشرة أشهر “أسيرة” لدى “جمهوريته الثانية” التي ولدت على يد قابلة أميركية في مدينة الطائف السعودية وها هي تترعرع في ظل رعاية سورية كاملة.
بخروج ميشال عون لا “يتحرر” فقط منزل السفير الفرنسي في ضاحية مار تقلا الغنية شمالي بيروت، بل ستتحرر فرنسا ذاتها التي – لخطأ في الحساب أو المبالغة في تقدير مساحة النفوذ والشعبية – ارتضت أن تسجن نفسها (لبنانياً) مع الجنرال الذي أوصلته الحسابات السياسية الخاطئة والمبالغة في تقدير الشعبية إلى السقوط العسكري الذريع.
لقد حصدت فرنسا نتائج إخفاقات الجنرال السياسية، بذريعة المحافظة على شرفها (وهي التسمية الحركية لعلاقاتها التي تعتبرها تاريخية ودائمة مع لبنان الذي كان)،
ومن غير أن تكون فرنسا طرفاً مباشراً في الحروب المتوالية التي شنها الجنرال ضد القوى الدولية والإقليمية والمحلية معاً، فهي قد دفعت فاتورة هذه الحروب أو معظمها بينما لم يكن لها رأي أو شراكة في قراره بخوضها أو في توقيتها أو اختيار جبهاتها.
لم يكن ميشال عون دون كيشوت ليستحق الاكبار الذي يناله أصحاب النفوس الكبار التي تتعب في مرادها الأجسام،
ولم يكن بطل مقاومة حقيقياً يقاتل تحت شعار الشهادة أو النصر.
كان طالب ولاية وصاحب رهان سياسي خاطئ. وكل ما في الأمر أنه خسر الرهان ومعه السلطة. وقررت فرنسا، لأمر ما، أن تخسر معه معاركه ضد الأميركيين والسوريين ومن ثم العرب بمن فيهم أكثرية اللبنانيين..
لقد دخل اميشال عون الحرب الأهلية في لحظتها الأخيرة، ودخلتها فرنسا بينما القرار الدولي (والعربي) بإقفالها كان قد اتخذ وبدأ تنفيذه فعلاً.
وإذا كان مفهوماً أن يقرر صدام حسين استعجال الدخول وبأي ثمن ليستدرك غيابه في حربه ضد إيران، وليحاول تعديل النتائج ومنع سوريا من الانتصار بالحل العربي، فمن غير المفهوم أن تتورط فرنسا فتخسر مكانتها كدولة كبرى من دون أن تكسب موقع “الطرف الكبير”.
في أي حال فهي فرصة مناسبة لتصحيح بعض جوانب سياسة فرنسا العربية، لاسيما في ما يعني سوريا ولبنان الذي لم يعد “محمية” سابقة، ولا دولة تحت الانتداب دستوره مترجم عن دستورها ورجال حكمه من خريجي جامعاتها أو من المتتلمذين على أيدي سياستها والمشبعين بثقافتها وروح تاريخها.
لم يستحضر ميشال عون فرنسا إلى لبنان، بل هي كانت أقوى فيه قبله منها خلال عهده – المأساة،
ولا يجوز أن ترحل فرنسا مع ميشال عون، بل لعلها فرصتها لكي تعود إلى لعب دورها الطبيعي كدولة ذات مكانة متميزة وذات علاقة خاصة باللبنانيين حدودها “ثقافية” أكثر منها سياسية، وطبيعتها ماضوية أكثر منها مستقبلية.
إن الذاهب إلى فرنسا لاجئاً هو ضابط مغامر لعب على الرقم الخطأ فخسر، وهو لا يعوضها لبنان ولا يستحضره فيها، بل لعلها تستعيد مكانتها في لبنان بقدر ما تساعد على طي صفحة ميشال عون.
ولدى فرنسا أكثر من لاجئ سياسي لبناني بالاختيار أو بالاضطرار، وهم هناك بلا دور وهنا بلا قدرة حقيقية على التأثير والتغيير، حتى لو كان البنانيون يحفظون عن بعضهم ذكريات طيبة.
الماضي مضى، والحاضر معبر إلى المستقبل وليس مجرد امتداد لما كان.
وغبي من يراهن على استعادة الماضي، وأغبى منه من يراهن على الحاضر وكأنه كتلة صماء صلبة بينما هو فعلاً أرض رخوة بالكاد تتحمل مرحلة الانتقال إلى ما بعدها.
وفرنسا في لبنان قوة توازن وليست قوة قرار، فإذا ما بالغت في دورها خسرت الدور ولم تربح القرار.
وليكن ميشال عون آخر الأخطاء الفرنسية في لبنان، ومناسبة لإعادة صياغة العلاقات بما ينفع البلدين والشعبين… وفي ما يتجاوز الحكمين وأشتات معارضتهما هنا وهناك.