ما حصل في بيروت خلال اليومين الماضيين ليس الكارثة بذاته، ولكنه قد يتحول إلى مدخل للكارثة، إذا ما وقع خطأ في تحديد العلاج الشافي أو في وسائل تطبيقه على الأرض.
والكارثة قد تجيء غداً إذا ما اعتمد ، مثلاً، علاج ناقص أو جزئي أو من طبيعة أمنية بحتة، وأساساً إذا ما وقع المحظور وتم تجاهل الواقع الموضوعي للعاصمة الصامدة وهموم أبنائها وتطلعاتهم المشروعة إلى دور وموقع ومكانة تليق بكرامة هذه المدينة العريقة وتراثها النضالي المتميز وطنياً على المستوى القومي.
والكارثة تجيء سريعاً إذا ما أحس الناس بإمكان تكرار أو تجدد “العملية” التي روعتهم ونكات جراحاً غائرزة، وسمحت للهواء المسموم أن ينتشر في منطقة تعقبر نظافة المناخ السياسي فيها شرطاً أولياص للتماسك وإحراز النصر في المعركة الوطنية المفتوحة تحت شعار إصلاح النظام الطائفي وضرب هيمنة الاتجاه الواحد أو الفئة الواحدة.
فالمطلب الأكيد للناس جميعاً أن تكون هذه “العملية” التي ابتلعوا حدوثها مرغمينن الأولى والأخيرة في بابهان وأن يتم علاج الظواهر الأمنية المشكو منها – والتي لا يحتكر “شرفها” تنظيم بعينه – بالعمل السياسي النشط والجاد والدؤوب والقادر على استقطاب الجماهير حول أهدافه الأصلية كما حول بعض الضربات التكتيكية الاضطرارية.
فالعمل السياسي الناجح يغني عن العنف واستخدام المدافع، فإذا ما أجبر على اللجوء إلى السلاح جعله استثناء محدوداً جداً، وتنفيذاً لإرادة أهلية تعبر عن نفسها علناً بقبوله بوصفه آخر الدواء.
والعمل السياسي الناجح هو القادر على كشف الظواهر السلبية ومحاصرتها وإنهائها عملياً، وعبر تقديم النموذج والقدوة في الممارسة وفي توكيد الأهلية على قيادة الجماهير نحو أهداف نضالها.
وافتراض الأهلية للتعبير عن “إرادة الأمة” والحق في استخدام التوقيت المناسب والسلاح المناسب، وتمثل مصالح الجماهير، وتنفيذ إرادتها، كل تلك أمور لها شروطها المتصلة بمدى القرب أو البعد عن النموذج والقدوة السياسية العتيدة.
فضرب “المتجاوز” و”المرتكب” من سارق السيارة إلى فارض الخوة، إلى المشبوه بارتباطه أو باتصالاته أو بعلاقاته مع “أجهزة” أو قوى معادية، وضرب المسيء إلى شرف السلاح الوطني، عموماً، حق مطلق، ولكن ليس لمثيله أو لشبيهه أو للمضارب عليه في مجالات الانتفاع بالتسيب والمتاجرة بخوف الناس من المسلحين المتسلطين بقوة الأمر الواقع.
وبصراحة ووضوح: ليس من حق الطائفي ضرب الطائفي، وإلا كانت الفتنة، مهما أطلق عليها من أسماء تمويهية كتنظيف الصف او تحقيق وحدة الهدف أو وحدة الأداة الخ..
وبصراحة ووضوح: فإن “العملية” الأولى قد يحاصرها الإخلاص والحرص على القضية فتبقى ضمن نطاق الصدام بالسلاح بين تنظيم وآخر، ولكن العملية الثانية تصير بين طائفة وطائفة، بين مدينة وجبل، بين عاصمة وريف، بين “أهل بيروت الأصليين” و”الوافدين”إليها و”الطارئين” عليها والمصادرين لإرادتها وقرارها السياسي.
بصراحة ووضوح أيضاً وأيضاً: ليس من حق أي تنظيم منفرداً أن يقرر إنه “القيادة” أو “القائد” وإن حقه مطلق في أن يقرر وينفذ فارضاً على الآخرين أن يتعاطوا مع النتائج فقط ومن موقع المعالج والمتدارك تحت وطأة الخوف من ضربة أخرى بقرار ثان من الطبيعة ذاتها.
إن بيروت هي ضمانة النصر، أي نصر، ولجميع أطراف التحالف العريض القائم حالياً بين مجموع المعترضين والمعارضين بالسلاح لسياسة الهيمنة والارتباط أو الاتصال بالعدو الإسرائيلي.
وبيروت هي عاصمة الجميع ومدينتهم، فإذا لم يكن من حق أهلها الأصليين أن يتحكموا بالآخرين وأن يفرضوا إرادتهم على “الوافدين” الذين يزيدون عليهم في العدد، وربما في فعالية الدور في اللحظة السياسية الراهنة، فليس من حق هؤلاء أن يستهينوا بالبيروتيين وأن يأخذونهم جميعاً بأخطاء هذا أو ذاك من سياسييهم، أو أن يتهموهم جميعاً بالقصور والتسليم للغالب.. ففي كل منا من العيوب ما فيه، وضمن العيوب بعض هذه الصفات وربما ما هو أفظع؟
ولا يمكن لأحد أن يربح بيروت بإلغاء البيروتيين.
كما إن بيروت لا تكون عاصمة الوطن وقلبه إذا ما هي ظلت تعامل أكثرية سكانها وكأنهم ريفيون فظون غليظو القلوب ومتخلفون.
فلا البيارتة هنود حمر، ولا أبناء لمحافظات الأخرى، الذين استقروا فيها وأعطوها أعمارهم وعرق الجهد ودم الشهادة “تتار” أو مغول!
والعلاج يكون، أول ما يكون، بأن ينظف كل بيته، وبأن يقبل كل نقد الآخر، وبأن تظل بيروت ما كانته حتى اليوم برغم كل المحن “الوردة” و”نوارة العرب” بما هي أرض الحوار والديمقراطية والحريات العامة، من حرية الرأي إلى حرية المعتقد.
فالتنظيم، وهو مطلب جماهيري كالانضباطن لا يلغي الحرية بل يجعلها كعبير الوردة متاحة للجميع، تماماً كما إن العمل السياسي النشط والجاد والدؤوب هو الذي يطارد ويطرد الهواء المسموم.