زاد “السلام” عن حده فانفجر،
أخطأ “الطبيب” فجاءت الجرعة أكثر من أن يتحملها “المريض” المتهالك فصرعته،
وتردد دوي الخطأ في العالم الذي تكشف، أخيراً، تواطؤه في تزوير التشخيص وبالتالي العلاج، فإذا بالانفجار يهزه هزاً عنيفاً ويفتح عينيه بدهشة المفاجأة على الحقيقة التي نسفت تل أبيب ناثرة الموت والدمار والهلج في جنباتها كما في العواصم القريبة والبعيدة.
“السلام” الأشوه قاتل كما الحرب وأكثر،
و”السلام” الناقص والمنجز تحت ضغط القوة القاهرة يحمل أسباب موته في داخله. فالإذعان قد يجيء بالسكينة، مؤقتاً، لكنه يغذي الشعور بالقهر وينميه باستمرار، ولا يكون أمام المقهور والمحاصر بعجزه وذل الهزيمة غير طريق واحد سالك: أن يفجر نفسه بالقاهرين.
ولقد أصاب الانفجار غزة بقدر ما أصاب عمان، بل هو قد أصاب واشنطن بضرر سياسي قد يكون أخطر مما لحق بتل أبيب ذاتها. وهذه الإدانات والاستنكارات التي تواترت معبرة عن استفظاع “جريمة التفجير” هي الوجه الآخر للترحيب غير المحدود والتأييد غير المشروط لاتفاقات الإذعان التي لم تصنع “سلاماً” ولم تنه “الصراع التاريخي”… بل لعلها أسهمت في صنع الانفجار.
ما أكثر أنصار “السلام” الأشوه والقابل للانفجار في وجه أصحابه!
وما أعظم قوة “حماس” التي استنفرت كل هذا “التحالف الدولي” فبدت، أمس، وكأنها “ند” حقيقي لحاصل جمع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية ومعظم الغرب ومعظم العرب الهاربين من عروبتهم ومن الإسلام إلى… العدم!
زاد “السلام” عن حده فانفجر،
ضاقت مساحة الخيار بحيث لم تعد تتسع للأمرين معاً: فلسطين وهذا النوع من “السلام” الملغي لهوية الأرض وأهلها،
وبالتأكيد فإن بين ما دفع ذلك الفتى الفلسطيني إلى تفجير نفسه بالآخرين هو عجزه عن العثور على جواب مقنع لسؤال ممض مفاده: إذا كان هذا هو “السلام”، فأين فلسطين؟! وبالتالي فمن أنا؟!
ولعله طرح على نفسه أسئلة أخرى لا يملك أجوبة مقنعة لها، من نوع:
هل شرط قيام “السلام” أن تزول فلسطين، نهائياً، وأن ينتحر الفلسطينيون حتى لا يظل وجودهم عقبة في طريق ذلك “السلام”؟!
هل يلغي التوقيع، أي توقيع، وطناً، أو الحق بوطن؟! وهل يغني الاحتفال الفخم في حديقة الورود في البيت الأبيض (أو في وادي عربة) عن الهوية والكيان وحق تقرير المصير؟!
هل كانت فلسطين في أي يوم نتيجة “قرار” من حاكم حتى يلغيها قرار مضاد؟!
وهل تكفي “الإرادة الملكية” لشطب “قضية” استوطنت وجدان الأجيال واستأهلت أن يموت عشرات الألوف من أجل نصرة عدالتها؟!
وهل أبأس من الاضطرار لتأكيد الحضور بالموت؟!
وبعيداً عن “الانتحار”، كيف يمكن للمعارض أو المعترض، ثم للمشطوب والملغى والمحكوم عليه “بالاختفاء”، أن يقول: لا؟!
كيف يعترض؟ كيف يثبت حقه في أن يكون؟ من هو المرجع الصالح للبت بوجوده ومن ثم بحقوقه ككائن حي، ثم كمواطن في “بلد” معين؟!
كيف يقول إنني، بعد، هنا ، وإنني لن أزيل نفسي بنفسي لكي يمر “سلام” الآخرين، “سلام” الذين رفضوني في الماضي ويرفضونني اليوم وسيرفضونني غداً لأنهم يرون في وجودي ذاته خطراً على وجودهم؟!
.. وإذا كان “سلامهم” يتطلب موتي فلن أموت، إذاً، وحدي.
زاد “السلام” عن حده فانفجر.
ورد الفعل الأولي يعكس المفاجأة بوجود “المفجر” وليس بأسباب الانفجار!
كأنما كان يفترض “المجتمع الدولي” أن أمثال هذا “الانتحاري” قد انقرضوا… ولقد صعقه أن يكتشف أنه ما زال هناك مثله، هذا المنتمي إلى العالم الذي زال وأسدل عليه الستار بالتواقيع “الملكية”.
لكن الموت يعيد طرح السؤال، ومن ثم الاستنتاج، معكوساً: لمن ينتسب الدم المراق؟ للماضي أم للمستقبل؟! هل هذا “الفدائي” محارب أخير لم يتبلغ قرار تسريحه، أم أنه طليعة جيل محارب جديد يحجز لنفسه مكانا ًفي غد ما بعد “السلام”؟!
الوطن لا تقرره تواقيع الحكام، حكامه أو الحكام الآخرين.
و”القضايا” ذات القداسة، المتصلة بالأرض والتاريخ وكرامة الإنسان وحقوقه، لا تنهيها ولا تسقطها اتفاقات الإذعان، ولا يستهلكها الزمن بالشيخوخة.
ففلسطين لا تتصاغر ولا تتقلص أو تتقزم لتصير غزة، أو أريحا! وفي المقابل فلا يمكن نفخ غزة، ناهيك بأريحا، لتغدو فلسطين.
وفلسطين ليست “شرقي الأردن”، حتى لو كانت أكثرية سكانه من “الفلسطينيين”.
وبطبيعة الحال فإن إسرائيل ليست فلسطين ولا هي “بديلتها” ولا يمكن أن تكون.
الأوطان لا تؤجر ولا تباع.
ولكي يفصل رابين بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين فلا بد أن يفصل أولاً بين فلسطين وبين إسرائيل، فليستا واحداً ولن تكونا، ولو بختم ملكي!
أما كلينتون، فلعله مطالب بأن يخفف من احتضانه لمثل هذا “السلام” حتى لا يخنقه!