غادرنا الرباط وفيها من يرى في مقررات مؤتمر القمة العربي السابع مدخلاً إلى “السلام”، ووصلنا باريس فإذا كل من فيها يتحدث عن حرب قريبة جداً وحتمية لا مفر منها ولا مناص.
كان المنطق واحداً بحيث تتداخل صورة الحرب وصورة السلام وتتشابك التفاصيل حتى ليجد الرجل الغربي نفسه أمام لوحة سوريالية تشبع رغبته وإصراره على إن يرى في “أزمة الشرق الأوسط” لغزاً مستعصياً على الفهم، فإذا ما فهمه فقد القدرة على الاستمتاع بالشرق الآخر الذي يملأ خياله: شرق السندباد وألف ليلة وليلة والحريم وعلي بابا والأربعين حرامي… وشيوخ النفط من الحريصين على تراث عصر السقوط وحكاياته الأسطورية البهيجة!
وتبرز أمامك أولى حقائق الموقف السياسي الراهن وهي: إن فلسطين – في لا وعي الرجل الغربي – مرادف للحرب. تماماً كما كانت كلمة “الثورة” أو “الوحدة” وغيرها من رموز النضال العربي في مرحلة عبد الناصر تعني مباشرة “تهديد السلام العالمي” والاستعداد لحرب لا يشنها – في النهاية – إلا جيش السلام الإسرائيلي!
وتركز الدعاية الإسرائيلية في أوروبا على محاولة تثبيت هذه المعادلة و”منطقتها” لتبرر بها – من ثم – حربها الجديدة.
إنها تقول، للغربيين، تحديداً: طالما اختار العرب “الإرهابيين” لتمثيل فلسطين وحقوق شعبها بدلاً من الملك المعتدل والمتحضر وذي الثقافة الغربية، فمعنى هذا إنهم اختاروا طريق الحرب الخامسة، وإسرائيل معذورة تماماً – بل ومطالبة – بأن تبدأها هي…
من هنا كان التركيز شديداً على عبارة قالها ياسر عرفات في الجلسة الختامية للقمة، ثم كررها في مؤتمره الصحافي الذي عقده قبل أسبوع في الرباط، و”تنبأ” فيها بقيامحرب خامسة في خلال ستة شهور.
ومن هنا التركيز على المسؤولين الفلسطينيين عموماً، ومحاولة إبراز ما يتصل بالحرب من أقوالهم، فتحتل صورة كبيرة لياسر عبد ربه صدر الصفحة الأولى في صحيفة كالهيرالدتريبيون، وتنفتح صفحات المجلات والصحف الفرنسية والأميركية والألمانية والإيطالية وحتى الإسبانية لصور عبد المحسن أبو ميزر وزهير محسن وخالد الحسن وفاروق القدومي وسعيد كمال، انتهاء ببعض رجال “الحرس الخاص لياسر عرفات”..
ومن خلال لعبة إعلامية تكتيكية تنقلب الآية: يصير الفلسطينيون دعاة حرب وقتل وتدمير، ويغدو الإسرائيليون ضحايا يجرهم الاستفزاز جراً إلى ساحة القتال، بتغطية شرعية ممتازة مستمدة من حق الدفاع عن النفس!
على إن هذه المحاولةتقف عاجزة أمام حقيقة أساسية جديدة تحتل مكانها بجدارة فوق المسرح العالمي وهي أن قضية فلسطين باتت أكبر من أن يمكن حجبها بمثل هذه الترهات.
وكما إن مؤتمر القمة العربي وجد نفسه ملزماً بمحاولة استيعاب الظاهرة الفلسطينية حتى لا تفجره من داخل، بكل ما يترتب على هذا التفجير من تداعيات منطقية، فاتجه بضغط الخوف من المستقبل إلى الملك حسين يطالبه بأن يرتاح ويريح،
كذلك فإن العقل الغربي الواعي يغادر الآن مواقع التحفظ والرهبة التي سجنته فيها التأثيرات الصهيونية الهائلة وعقدة الذنب المتأتية من العهد النازي، ليحاول – بدوره – استيعاب الظاهرة الفلسطينية إدراكاً منه بأنها المسألة المركزية للنضال العربي المعاصر، وأن الاستمرار في نجاهلها لن يوصله إلى غير الصدام بعرب السبعينات والثمانينات وهم غير عرب العشرينات وحتى الخمسينات فهم الآن القابضون على زمام الثروة في العالم كله، إضافة إلى المزايا الجغرافية لمنطقتهم الفائقة الأهمية استراتيجياً.
وكالعادة، فإن الفرنسيين هم الذين تولوا زمام المبادرة في الاعتراف بالظاهرة الجديدة والتعامل معها. ولم تكن جولة وزير الخارجية الفرنسيةجان سوفانبارغ في المنطقة العربية ، وحرصه على أن يلتقي خلالها بياسر عرفات، غير تتويج رسمي وعلني لخط استراتيجي في السياسة الفرنسية. وصحيح إن هذا الخط قد أقر واعتمد في عهد الجنرال ديغول، لكن الصحيح أيضاً إن الرئيس جيسكار ديستان لايملك له تغييراً إلا إذا كان يريد أن يلغي فرنسا ذات النهج الاستقلالي المتميز عن النهج الأميركي بمقدار ما تتميز المصالح البحت الفرنسية عن مصالح الاحتكارات الأميركية، ليبني فرنسا جديدة بسمات بريطانية أو ألمانية أو يابانية في أحسن الحالات.
وعلى ضوء الوقائع الغريبة لزيارة سوفانبارغ إلى إسرائيل ولقاءاته العاصفة مع المسؤولين فيها، يترسخ الاعتقاد بأن المبادرة الفرنسية أقرب إلى “السبق” منها إلى “الموقف المستقل” : إن العالم يمشي قدماً على طريق الاعتراف بفلسطين – الكيان، الدولة، السلطة الوطنية لا فرق – بعدما اعترف بالفلسطينيين كفدائيين ومنظمات تقاتل قتالاً مشروعاً من أجل الخلاص من ذل اللجوء والتشرد والعودة إلى التراب الوطني الفلسطيني، فلماذا لا نكون السباقين فنريح أفضليات “الأول” وحقه غير المناقش في أن يكون الأولى بالرعاية فلسطينياً وعربياً؟
بين ما يرسخ هذا الاعتقاد الطريقة الفظة التي عاملت بها إسرائيل المبادرة الفرنسية والمسؤول المباشر عن تنفيذها: جان سوفانبارغ… فلقد تقصد الإسرائيليون أن يعاملوه بقسوة حتى لا يفاجأوا غداً بالإيطاليين – مثلاً – أو الهولنديين أو البلجيك أو البريطانيين، وحتى الأميركيين يطالبونها بمثل ما طلبها به وزير الخارجية الفرنسي.
ويعتقد الفرنسيون إن ثمة تنسيقاً، بهذه النسبة أو تلك، بين حكومتهم والولايات المتحدة الأميركية. ويستدلون على التنسيق بوقائع التصويت على دعوة ممثل فلسطين للتحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فهم من جهة، لا يمكنهم أن يتصوروا أن يكون رئيسهم ، المعروف بحرصه على صداقة واشنطن، قد وصل بالتناقض سياسياً معها إلى حد أن يصوت المندوب الفرنسي ضد الموقف الأميركي جهاراً نهاراً وفوق أهم وأكبر منبر دولي.
وهم، من جهة أخرى، يستشفون “ليونة” في الموقف الأميركي عبر المئة وخمسة أصوات التي نالتها دعوة المنظمة، فيقولون: إن الولايات المتحدة تسير نحو الاعتراف بمنظمة التحرير بخطى إسرائيلية، .. أي إنها لا تستطيع الاستمرار في تجاهل “الظاهرة الفلسطينية”، والقفز من فوق حقيقتها والهرب من الاعتراف الصريح والمباشر بها والتعامل معها، لكنها، بالمقابل، لا تريد أن تزيد الضغط على إسرائيل أكثر مما تطيق. وهي بهذا تضغط على الطرفين معاً: تساعد “المعتدلين” الإسرائيليين على بلورة موقف مقبول شعبياً، خصوصاً مع توفر التغطية الأميركية له، وتبتز من الفلسطينيين بعض التنازلات ليصيروا – بدورهم – معتدلين، لأنهم يطمحون – بالتأكيد – إلى اعتراف أميركا بهم إذا ما كانوا يريدون حقاً إقامة دولتهم العتيدة.
ويستشهد الفرنسيون على صحة تحليلهم هذا بالقول إن احتياطي الأصوات الأميركية في الأمم المتحدة، وبالذات أصوات دول أميركا اللاتينية بأكثريتها الساحقة، قد توزع بين ممتنع ومتغيب ومؤيد، ولم تجاهر بالمعارضة (مع الولايات المتحدة) سوى دولتين فقط لا غير.
ويخلص هؤلاء إلى القول: إن ثمة خطين للسياسة الأميركية تجاه قضية فلسطين يسير أحدهما بموازاة الآخر ليخدما بالنتيجة الهدف الاستراتيجي ذاته:
*الخط الأول متشدد يكاد يتطابق تماماً مع السياسة الإسرائيلية المعلنة ليشكلا معاً موقفاً واحداً، على حد تعبير الرئيس السوري حافظ الأسد في بعض مناقشات قمة الرباط. وبهذا الخط تضمن واشنطن ليس فقط تأييد تل أبيب وإنما أيضاً السيطرة على حركتها. وتتخذ التعبيرات عن هذا الخط أشكالاً متعددة من الدعم والمساعدة بالسلاح والمعدات والمال والخبراء وأحدث مبتكرات التكنولوجيا الأميركية.
*والخط الثاني يناور بأفق مفتوح للالتفاف على المطالب الفلسطينية المدعومة بالتأييد العربي الكثيف. والهدف المباشر لمناورة هذا الخط “اللين” تجميد حركة النضال العربي وعرقلة تطورها باتجاه أكثر تقدماً وبالتالي أكثر ثورية، بحيث يظل بضعة من الملوك والرؤساء قادرين على المراهنة على الموقف الأميركي بالاستناد إلى “الظواهر الإيجابية” و”الكلمات الموحية” التي تصدر عن هذا المسؤول في البيت الأبيض أو ذاك على شكل هفوات أو زلات لسان أو تصريحات موجهة، لا فرق… وفي ظل هذا الجو يتسع المجال لابتزاز حركة المقاومة الفلسطينية ولإغرائها بشيء من التراجع حتى تلتقي مع الأميركيين في منتصف الطريق، إذ “لا يعقل أن نفرض على قوة عظمى أن ترفع يديها مستسلمة أمام شروطنا المستحيلة”!
ويمكن تلمس معالم الخطين معاً عبر ممارسات كيسنجر وبهلوانياته اللفظية، مضافاً إليها بعض ما صدر عن الرئيس الأميركي فورد بعد تسلمه تقاليد السلطة في واشنطن.
فمن خلال كلمات بعض الملوك والرؤساء والوزراء العرب، في قمة الرباط، تكشف ما يلي:
1 – إن كيسنجر كان يحاول خلق التعارضات بين مواقف الأطراف العربية المعنية، مع تركيز خاص على أن تظل هذه المواقف مجتمعة بعيدة عن الموقف الفلسطيني إذا تعذر جعلها متصادمة معه.
ولقد قال عبد الحليم خدام، صراحة، إن كيسنجر حاول جاهداً خلق هوة بين مصر وسوريا،
واعترف الملك حسين، صراحة ، إن كيسنجر لم يعرض عليه مشروعاً لفك الارتباط – كما كان زعم لمصر – بل مجرد معابر إلى الضفة الغربية لدخول موظفيه المدنيين ، على أن تبقى القوات الإسرائيلية في قواعدها بالضفة..
وجهر الرئيس السادات بأن كيسنجر قد خدعه فأوهمه إنه يحمل إلى عمان مشروعاً مقبولاً لفك الارتباط الأردني – الغسرائيلي..
وبأن الهدف جلياً: تتعارض المواقف العربية فينعكس تعارضها ضعفاً في الموقف الفلسطيني، فإذا ضعف استخدام هذا الموقف لإضعاف المواقف أكثر فأكثر..
أما إذا نجح الحكام العرب في تفادي التعارض فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين الفلسطينيين من جهة أخرى، فينصرف الهم إلى محاولة تصوير الموقف العربي “الموحد” وكأنه صرخة حرب جديدة موجهة هذه المرة ضد الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم ابتزاز الاستنكارات والتنصل والتبرؤ من “التهمتين” معاً: تهمة الاستعداد للحرب، وتهمة معاداة الأميركان!
وإذا كان كلام الملك الحسن، في مؤتمره الصحافي أثر ارفضاض القمة، قد تركز على السلام، مستشهداً بالتراث، لتبيان إن العرب يستقبلون الآخرين ويودعونهم بكلمة “السلام”،
فإن الملك فيصل قد اندفع خطوة أبعد فأعطى الحرب سمات سوفياتية والسلام ملامح أميركية، حين عارض دفع أموال لدول المواجهة “لأنها ستشتري بها أسلحة من الدول الشيوعية مما يقوي معسكر الملحدين”!..
لكن الملك فيصل عاد فدفع، في النهاية أو هو وعد بالدفع ، لأنه – برغم كل تحفظاته الشهيرة – قد أدرك تلك الحقيقة البسيطة القائلة إن تحقيق حلم الصلاة في المسجد الأقصى يحتاج إلى كثير من المدافع والدبابات والطائرات المقاتلة… إضافة إلى جهود كيسنجر ومعها، بل إن تعزيز خط القتال هو المنشط الفعلي لجهود العزيز هنري.
وهكذا انتهت قمة الرباط بأن أشرعت أمام كيسنجر أبواب الحرب وتركته يكافح لإغلاقها، بعدما كافح أصدقاؤه من العرب طويلاً لفتح أبواب السلام، بمعرفته ومساعدته وبفضله، لكنه استمر يزعم لهم أنه قد فقد المتفاح..
… وظل الإسرائيليون على انهماكهم في الاستعداد للحرب الخامسة، القريبة والمحتومة.. كما القدر!