لسنا بين أولئك الذين يتخذون مما جرى في بيروت ولأهلها، خلال الأيام القليلة الماضية، فرصة للشماتة بنبيه بري ووليد جنبلاط، أو مناسبة لانتقام الضحايا (ونحن بينهم) من الرجلين المسؤولين عما كان،
ولسنا بين من يستغل اعترافهما بالخطأ والحاجة إلى التطهير الذاتي للقول بنبرة التشفي: أما نصحناكم؟! أرأيتم إلى أين أوصلنا استغناءكم بنفسكم عن الآخرين؟!
ولسنا، على وجه الخصوص، بين من يتخذ من هذا كله – على هول ما حدث وبشاعته – فرصة لمطالبة وليد جنبلاط ونبيه بري، ومعهما الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة “أمل” بالخروج من بيروت.
فنحن مع بيروت، نريدها أن تبقى أميرة عربية، وأن تبقى المنتدى والمنبر الفكري وواحة الديموقراطية، الصحيفة والمطبعة والكتاب والأغنية، وساحة نضال أساسية للإنسان العربي في تطلعه نحو غد أفضل: أي نحو التقدم والتحرر والتوحد، وكل ذلك لا يكون بغير نصر حقيقي وأكيد في المعركة – الام ضد العدو الصهيوني.
ونحن مع بيروت المركز وقطب التوحيد للمجتمع اللبناني والمنطلق الذي لا بديل له في تطلعه إلى وطن حقيقي لكل مواطنيه ودولة حقيقية توفر له مع الأمن العدل ومع السلامة الكرامة ومع لقمة العيش شرف الانتماء إلى أمة جديرة بالحياة.
ونحن نطالب جنبلاط وبري، ونحاسبهما، انطلاقاً من مسؤوليتهما المسلم بها – مبدئياً – عن بيروت ودورها. وبالتالي عما وقع ويقع لها ولأهلها.
لقد ارتضينا أن يكونا المرجع ومصدر القرار، في السياسة كما في الأمن، وخاضا صراعاً مريراً مع القوى الأخرى التي كانت سيدة أو ذات نفوذ فيها، بدءاً بالدولة ومؤسساتها وأجهزتها المدموغة بالفئوية وانتهاء بمن اعتبروا تقليديين ورجعيين ومرتبطين بالمخابرات الأجنبية أو رموزاً لعصر الظلم والغبن والحرمان المفروض على الشعب بكتلته الأساسية.
ثم إننا نطالب جنبلاط وبري، ونحاسبهما، بمعايير وطنية وقومية وتقدمية، لأننا ندرك أن بين أهداف المؤامرة على بيروت (ولبنان) أن ينتهي عصر الوطنية والقومية والتقدمية، وأن تتحول البلاد، والعاصمة أساساً، إلى غابة تصطرع فيها الغرائز والغيلان والوحوش باسم الأديان والطوائف والمذاهب.
وما أسهل أن يتلطى “المندسون” و”المصطادون في الماء العكر” و”عملاء إسرائيل” خلف ترسبات عصور الظلام والتعصب وموروثات الاحتلال ومبتدعات العصر الإسرائيلي، فيعملون قتلاً ونهباً وتدميراً و”تشبيحاً” وترويعاً للناس ومصادرة لحرياتهم وممتلكاتهم، باسم حمى التعصب الطائفي، او تحت راية العمل لتوفير سيطرة هذا المذهب أو ذاك على المدينة والبلاد، وتحقيق “نصر حاسم” على الطوائف والمذاهب الأخرى وإلغاء دورها.
… وندرك إن بين أهداف المؤامرة أن يضيع نبيه بري ووليد جنبلاط وأن يفقدا وجهة السير نحو غاية النضال الوطني، وأن يغرقا في الحماة الطائفية أو المذهبية الخانقة ويغرق معهما جمهورهما الذي شكل دائماً رافداً أساسياً من روافد العمل الوطني والقومي.
ومع كل صدام بين “أمل” والاشتراكي سيتهدد كلا من التنظيمين خطر الانجراف مع العصبيات المذهبية، ويستبعد أكثر فأكثر عن المنطلقات والشعارات الوطنية التي كان يحملها وينتدب نفسه لمهام تحقيقها،
مع كل صدام بينهما يتراجع التوجه نحو اعتبار إسرائيل هي العدو الواجب قتاله بكل ما ملكت الإيمان، كما يتراجع التوجه نحو ضرب الهيمنة الطائفية والفئوية كمرتكز للنظام الطائفي، ويغلب بالضرورة توجه نحو “انتزاع” حقوق الطائفة وتأمينها.
وهكذا يتوارى الوطن ، وتتبدل طبيعة المعركة، وتتحور مواصفات “العدو”، فإذا القتال غلط كله: في المكان والزمان والأهداف والشعارات.
وبعد كل صدام يصبح كل من التنظيمين، ثم التنظيمات مجتمعين، أقل قدرة في حماية الشعار الوطني المرفوع وأكثر عجزاً في تخطي قواعد اللعبة الطائفية والخروج عليها، بل إنهما ينتظمان مندفعين قدماً في إعادة إنتاج النظام الطائفي نفسه وبصيغة أسوأ وأكثر تخلفاً وأفدح في ظلمها للإنسان في لبنان.
وبعد كل صدام ، تشتد حساسية التنظيمين تجاه بيروت وتصورها أوهامهما ومخاوفهما وكأنها هي السبب وهي العقبة وهي فاضحة عجزهما وهي محورة وجهتهما وهي الدافعة بهما إلى المستنقع الطائفي الآسن، في حين أن هذه عملية جدلية: كل يدفع بالآخر يم ينجذب بقوة دفعه إلى الهاوية ذاتها.
ومؤكد أن “أمل” قبل 6 شباط وما تلى ذلك “اليوم الملعون” كما يقول المفتي قبلان كانت أقل طائفية ومذهبية مما هي اليوم،
ومؤكد أيضاً أن الحزب التقدمي الاشتراكي كان قبل صدامات الجبل ثم بيروت أقل طائفية ومذهبية مما هو اليوم، وأكثر أهلية لحمل راية المشروع الوطني للبنان المستقبل وصيغته العتيدة.
وهنا يكمن مصدر الخوف على وليد جنبلاط ونبيه بري والتنظيمين الحليفين، ومعه ينمو الخوف منهما ومن تنظيميهما كما أظهرتهما الصدامات الأخيرة، وبكل وجوه الخلل والاختراق والتفلت التي تحدث عنها الرجلان بشجاعة العازم على تطهير الذات.
ومن واجب كل وطني أن يرفع الصوت منبهاً ومحذراً من البعد الخطر لما يجري: فليس الأمر الآن أمر بيروت كمدينة، أي كمتاجر ومصارف ودكاكين وشقق وسيارات وبيوت وسكان، بل هو أمر مستقبل الوطن نفسه وأهله جميعاً، بدءاً من بيروت وانتهاء بها.
ولقد تحمل أهل بيروت، جميعاً، بمن فيهم نبيه بري ومن معه ووليد جنبلاط ومن معه، مخاطر الحصار الإسرائيلي لبيروت بكل آثاره المدمرة، وتحملوا أيضاً المجابهة الشرسة والعظيمة مع أدوات الهيمنة الفئوية بكل أكلافها الباهظة، على المدينة وأهلها، بأرواحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم.
ولقد تحملوا ضريبة ما بعد “طرد” الدولة، بوجهها الفئوي، وحروب خطوط التماس التي التهمت نصف ما تبقى من المدينة – الرهينة، وتلك الحروب ما شنت ضد المدينة إلا لمعاقبتها على تسليم رايتها وقرارها السياسي لمن عصوا الدولة الفئوية.
وتحملوا أخطاء الممارسات التي صدرت عن مسلحي “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، ومن ضمنها الآثار المرعبة للصدامات في ما بينهما.
لكن الأمر الآن يتجاوز ذلك كله. فبين نتائج هذه الصدامات المتكررة أن “يستأصل” كل من وما هو وطني وقومي وتقدمي في لبنان، وأن لا يبقى فيه مكان إلا للطائفيين والمذهبيين والفئويين، في الغربية كما في الشرقية، وتلك أقصى أهداف المؤامرة على لبنان والعرب مجتمعين،
بل إننا مهددون بأن لا يبقى ثمة مكان إلا للأكثر طائفية بين الطائفيين والأشد فئوية بين الفئويين، وهكذا نخسر المستقبل بينما الحاضر يخسرنا على عتبة “حقوق الطوائف”.
إننا بين من طالب ويطالب الآن نبيه بري ووليد جنبلاط بأن يخرجا من حماة هذه “الحرب المستحيلة”، كما أسميناها، و”الحرب الممنوعة” كما أسمتها “الأنباء”، إلى الوطن والأفق الرحب والمشمس والصحي للعمل الوطني والقومي والتقدمي.
وفي هذا المجال فإننا نطالب الوطنيين جميعاً بأن يمدوا اليد لمساعدة نبيه بري ووليد جنبلاط، حتى لا تحاصرهما سموم الطائفية فتقضي عليهما وعلى المشروع الوطني في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ لبنان والمنطقة.
ولتكن المساعدة على قاعدة : انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً… ونصرته وهو ظالم تكون برده عن ظلمه.
فإنقاذ بيروت مطلب وطني،
وكذا، إنقاذ وليد جنبلاط ونبيه بري.
وأساساً إنقاذ حلم لبنان – الوطن.
وليكن اعترافهما بالخطأ وإعلان الاستعداد لتطهير الذات مناسبة لمحاولة الإنقاذ هذه، التي قد تبدو صعبة وشبه مستحيلة، لكن صعوبتها هي مبررها الأهم.