تحت الثلج، وفوق جليد الأرصفة في موسكو التي تبدل كل ما فيها إلا طقسها، كان أهل الصحراء العربية يهرولون ليدخلوا “بيت الطاعة” صاغرين مستجيبين لجميع الشروط الإسرائيلية، بعدما لبوا من قبل الشروط الأميركية كاملة وبغير نقاش.
لم يتوقفوا ليسألوا عن إخوانهم العرب الغائبين، ولم يهزهم أن يظل موضوع المؤتمر خارج المؤتمر، متلطياً مع الفلسطينيين اتقاء لصقيع التجاهل وإنكار الهوية وصفقة يوضاس المعكوسة، إذ أن “يوضاس العربي” يتخلى عن معلمه ويدفع!..
كانوا يعرفون أنه مؤتمر إسرائيلي بغطاء أميركي (روسي).
وكانوا يعرفون أنه “جائزة” إسرائيل مكافأة لها على انضباطها وصدوعها للأمر الأميركي، إبان الحرب ضد العرب في الخليج، وامتناعها عن الشغب على خطة السيطرة على الأرض العربية ومواردها الطبيعية وعلى الإرادة العربية واحتمالات التغيير تحقيقاً لغد عربي أفضل.
داسوا على تواقيعهم الملكية، على نطقهم “السامي” حول فلسطين وقدسها الشريف، على ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وعلى الثمرة العربية اليتيمة لرحب الخليج: إعلان دمشق،
حملوا رأس الانتفاضة في فلسطين، والمقاومة في لبنان، والصمود السوري، وقدموه إلى “سالومي” اتباعاً برأس يوحنا المعمدان،
فلشوا كوفياتهم بساطاً تحت أقدام المنتصرين… عليهم، ولوحوا بالعقل مهللين لملك الكون الذي تكرم فأسبغ عليهم حمايته… من قوته، واستطراداً من غضبة “رعاياهم” المشاكسين!
انفرجت أساريرهم انبساطاً، وامتدت ابتساماتهم بمدى العدسات والشاشات، وامتدت أياديهم إلى “الحرام” من غير أن يرمش لهم جفن، موفرين لإسرائيل أن تحصل على أقصى ما كانت تتوقعه، كما قال وزير خارجيتها ديفيد ليفي،
ولقد أخرج هذا السخاء العربي الباهر وزير خارجية الولايات المتحدة عن طوره فرفع سبابته في وجوههم، وشاركه ليفي رفع السبابة، وهتف بغير تورع: “إن هذا المؤتمر نجاح يمكن لإسرائيل أن تفخر به…”.
ما لم يقله جيمس بيكر أن هذا النجاح الاستثنائي لإسرائيل له ما بعده، مما سيدفع ثمنه – أيضاً – العرب الأسخياء!
فما تحقق لإسرائيل في موسكو سيستخدم ضد العرب الغائبين (أصحاب القضية والمعنيين المباشرين بالتوسع الإسرائيلي) غداً في واشنطن،
أي إنها، وبكل المعايير، طعنة في ظهر الأخ الشقيق، لحساب العدو، الذي لن تبدل المؤتمرات والمفاوضات اسمه في الوجدان العربي،
ثم إن هذا النجاح سيزيد من قوة إسرائيل في واشنطن وعليها، خصوصاً وإنه يجيء عشية الانتخابات، وهي – تقليدياً – الموسم الممتاز لاستعراض القوة الإسرائيلية بتأثيراتها الحاسمة على مجرى اللعبة السياسية الأميركية.
… ولقد أرفقت إسرائيل هذا النجاح المذهل بحركة تكتيكية بارعة تزيد من هامش المناورة والقدرة على التأثير، داخل الولايات المتحدة بداية، كما في سياق المفاوضات مع “أعدقائها” العرب، حين اتفاق “يمينها” و”اليسار” المزعوم على تبكير موعد الانتخابات النيابية فيها، بحيث تقع عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية،
كل ذلك بعدما اطمأنت إسرائيل ليس فقط إلى الإفراج عن ضمانات القروض للمليارات العشرة من الدولارات، بل كذلك إلى توظيفها تحديداً في مجال الاستيطان، أي في مجال تعزيز قدراتها البشرية لاحتلال المزيد من الأراضي العربية وتوطين المستقدمين اليهود من مختلف أرجاء المعمورة فيها.
مبروك، لقد هزم العرب العرب،
ومبروك لقد نصر بعض العرب إسرائيل على كل العرب،
ومبروك لقد تحققت النبوءات الغربية بأن القومية العربية مجرد أوهام، وإن التضامن العربي والقضية العربية المقدسة ووحدة الهدف بين العرب كل ذلك حديث خرافة،
ولكن، ماذا ترى بقي لهؤلاء “الأعراب” العائدين الآن من موسكو بعدما قدموا كل ما كانوا يملكون – نظرياً وعملياً – للسيد الأميركي الذي فوض أمرهم إلى السيد الإسرائيلي؟!
هل سيضعون اللوم على الفلسطينيين فيتهمونهم، مثلاً، بأنهم باعوا أرضهم وتنازلوا عن حقوقهم، وإنه لم يكن أمامهم غير أن يكملوا ما بدأه أصحاب الشأن؟!
هل سيتهمون السوريين بأنهم تخلوا عن جولانهم أو عن دورهم القومي وفرطوا بالقضية المقدسة، فاضطروا إلى الموافقة مرغمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير؟!
هل سيتقولون على اللبنانيين الذين تحرقهم النار الإسرائيلية يومياً، فيزعمون أنهم قد جاءوهم بالتحرير وتطبيق القرار الدولي (425)، وإن ليس لهم بالتالي أن يؤاخذوهم على بعض التساهل في المسائل الشكلية؟!
الخطايا بحر أجاج بلا ضفاف ولا قرار،
وليس لمفرد عذر،
فليست فلسطين، بأرضها وحقوق شعبها، “جارية” مطروحة في سوق النخاسة، وشعبها العظيم، ومعه سائر العرب، لن يغفروا هذه التنازلات المجانية يقدمها من لا يملك لمن لا يستحق،
وليست سوريا، بدماء شعبها وجيشها المسفوحة من أجل حماية الصمود العربي، كياناً من كرتون يمكن إلغاء دورها بشطحة قلم أو بشطحة خيال،
وكذلك فإن لبنان الذي دفع الكثير والغالي من دماء أبنائه ومن أرزاقهم، لن يقبل أن يكون “خلعة باب الدار” يقدمها هؤلاء المترفون من العرب لإسرائيل، ليشتروا بها عروشهم، وليحافظوا على ما حرم منه إخوانهم، في لبنان وخارجه، من رفاه ورخاء ويسر في العيش.
إنها بداية عصر جديد، إسرائيلي الملامح، أميركي الهوية.
ولكنها بداية فقط، ليست هي التاريخ كله، وليست القدر.
ومرة أخرى، سيكون على كل أن يصنع تاريخه بيديه، بدءاً بموسكو وانتهاء بآخر عاصمة عربية.