امتلأ الشارع “المفرغ” والمهجور، أمس، وصار نهراً، وصار بحراً، وصار محيطاً من الرايات، مختزلاً إرادة الأمة ورفضها القهر الأمر من الموت والخنوع للعجز الأقصى من الهزيمة.
ولو أن الشارع ما زال حياً، وما زال نبضه يطلق الدم عفياً في أوردة الأمة وشرايينها، لصارت الغارات الإسرائيلية بعض الحرب بدل أن تكون عمليات اغيتال فردية أو جماعية تمر بغير عقاب.
فمن بعلبك، جرودها والسهول، بكل القرى والبلدات التي شرفت باستشهاد بعض فتيتها، إلى بيروت والجنوب وسائر أنحاء لبنان، كانت الصورة مجيدة يوم أمس.
لم يكن تشييعاً، بل كان تجديداً للعهد، وانتظاماً على طريق المقاومة، وإعلاناً مدوياً برفض الاستكانة والانطفاء في تابوت العجز.
لقد استعاد لبنان بعض النقاء، وعاد فتيته مصدراً للأمل، والتف شعبهم من حولهم مؤكداً أنهم لن يكونوا آخر المقاتلين العرب، وبالقدر نفه مؤكداً انهم – على انتمائهم لـ “حزب الله” وقولهم بالجهاد تحت راية الدين – ليسوا جالية أجنبية بل هم بعض ضمير أمتهم وبعض شرقها.
بعيداً عن بعلبك وعن بيروت وعن خط النار المشتعل أنهراً على جبهة الجنوب وعن الحرائق التي تلتهم المواسم الزراعية، كان “وفد من الخبراء والمسؤولين في إدارة الموارد المائية في بعض الدول العربية يقومون بجولة دراسية على ضفاف أنهاء أميركية تجري في مناطق شبيهة ببعض الوطن العربي”.
… وهو تقليد باشرته إدارة “التدريب الأميركية” منذ “افتتاح” المفاوضات المتعددة، “لتدريس” أعضاء الوفود العربية فيها، ومن ثم خبراء ومسؤولين عرباً، على مشاريع محققة في الولايات المتحدة كنموذج للاستخدام “الأمثل” للموارد المائية بين “دول” المنطقة.
اليوم، 4 حزيران 1994، يفترض أن يكون “الدارسون” العرب في ولاية كولورادو التي تحمل اسم نهر كبير لم تبق الحكومة الأميركية من مياهه الجارية إلى مصبه في المكسيك سوى كمية هزيلة، بعدما استنفدت كمياته الأساسية في مشاريع داخل الأراضي الأميركية، في أقصى الوسط والجنوب الغربي…
أما في البقاع الجريح، فلقد استمر الليطاني اليتيم، غزير الدم الجاري، كعادته في ظل مسلسل الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان منذ ربع قرن أو يزيد، يتابع رحلته جنوباً، لا يبدل طريقه ولا يحيد عن مساره الأصيل.
وكان أمس أغزر دماء وأوسع ضفافاُ، من البقاع إلى الجنوب.
ولقد فاضت مياهه المعطرة بالشهادة أمس على أكثر من مدينة وقرية لفها هدير التشييع للكوكبة الجديدة من حملة آخر الأحلام السنية والمجيدة، للذاهبين إلى التحرير وإجلاء العدو الإسرائيلي عن أحلامهم وتصورهم لغدهم…
لعلهم بين آخر حملة الأحلام الكبار،
لكنهم ليسوا بالتأكيد آخر المقاتلين،
فالإنسان بأحلامه، وبئس تافه الأحلام، ومن معدته أكبر من غده في أرضه.
ثم إن الاحتلال والقهر والإذلال اليومي وافتقاد الأمان كل ذلك سيستولد أجيالاً جديدة من المقاتلين من أجل حقوقهم كبشر، ومن أجل حقوقهم في أرضهم، ومن أجل كرامة انتمائهم إليها.
لولا ما يمثله هؤلاء الشهداء لكدنا نقول أن مواكب الجنائز العربية من المحيط إلى الخليج لم تعد تحمل جثثاً، ولكنها تشيّع أجيالاً بكاملها…
هناك، في كولورادو، خبراء النهر، وهنا خبراء النهر.. خبراء من نوع آخر.. لنهر من نوع آخر..
هنا الخبراء – الشهداء الذين عبروا الليطاني إلى شمالي البقاع، تحملهم أحلامهم، لكي يتدربوا على امتشاق الإرادة سلاحاً وليسلكوا الطريق الأقوم والأقصر في اتجاه الهدف الذي لم ينسوه، ويعلمونا – وحدهم – كيف لا ننساه في جنازة الأجيال العربية من مدريد إلى غزة – أريحا إلى كولورادو : مقاومة العدو الإسرائيلية.
المعنيون المتكاثرون بالماء المهدور، غير معنيين بالدم المهدور- الذي أسمَعَ هديره أمس.. الهدير الذي يحمي الذاكرة.. إن لم يحم الحاضر..
ذاكرة المستقبل الذي لا تصنعه إلا.. الأحلام الكبار، أحلام الشهداء، من مضى منهم ومن ينتظر.