طلال سلمان

على الطريق في بازار المرشحين للرئاسة: اقبض بالتي هي أحسن!

في يوم واحد، تهاطلت علينا عروض بآلاف الدولارات في هذا الموسم من الخيرات الذي يحييه طالبو السلطة والرئاسات!
وهي عروض بعضها من الداخل وبعضها من وراء البحار وبعض ثالث من عرض البحار، وهي كلها عروض أكرم من أن ترفض وأكره من أن تقبل.
ولأننا من السذاجة بحيث ما زلنا نحترم الدولة ومؤسساتها، والشرعية ورئاستها، فقد بقيت للمرشح للمنصب الأول في لبنان حركة صاحب الطموح إلى تأدية رسالة مؤداها حماية الدستور ووحدة البلاد واستقلالها.
من هنا رفضنا، من حيث المبدأ ومنذ اليوم الأول، فكرة الاعلان السياسي والتعامل مع معركة الرئاسة وكأنها بازار مفتوح، الداخل إليه يغنى إلى ولد الولد، والخارج عليه عبيط البلد!
لكننا اكتشفنا، وسط الزحام، إن العديد من المرشحين إنما وجدوا في البازار فرصة لأن “يسوقوا” أنفسهم، فتعرف أسماؤهم، وتعمم صورهم، كالمطلوبين ومطربي المطاعم، وكفى…
فالترشيح غاية بحد ذاته، والربح المضمون هو، في النهاية، لقب مرشح لمنصب مرشح وهو مجد يرخص في سبيله الغالي والنفيس،
وفي مثل هذه الصفقة “بوش ما في”، لأن المرشح الكريم ليس لديه ما يخسره.
فلا رصيد سياسياً، ولا تاريخ يخشى عليه، ولا سمعة بناها بالعمل والانجاز في أي حقل وطني عام.
فالترشيح، في بلد الحريات، حر بلا قيد ولا شروط: كل من بلغ سن الرشد وكان مارونياً بالولادة، يحق له أن ينتدب نفسه لمهمة الإنقاذ، إنقاذ البلاد والعباد وهو منهم في الطليعة،
والمنقذ “اللبناني” دفيع، ثم إنه يعرف إنه يطلب العلى، ومن طلب العلى سهر الليالي ودفع الحساب، ونثر بعض الفضة والذهب، فالرئاسات غرم لا غنم، وقدر أصحاب الرئاسات أن يعطوا من وقتهم ومن صحتهم ومن مالهم ومن فكرهم وهذا أضعف الإيمان!
قال صاحب العرض الأول، وهو مريد لرسول غائب: – نريد حجز عدد من الصفحات كصورة المنقذ مزدانة بتواقيعنا الممهورة بالتعب من الحرب، فكم تريدون ثمناً للمساحة الاعلانية؟!
واعتذرنا بلطف، موضحين إننا لا نقبل فكرة الاعلان السياسي. فجاء الرد صدمة، إذ قال صاحب العرض: ولكن هذا حقنا، وهذا بعض برنامجنا في الحملة الاعلامية، فأنتم مؤسسة عامة، ونحن إنما نريد نشر رأينا.
قلنا: – صفحات “السفير” كلها مفتوحة لكم ولغيركم من أصحاب الرأي، فاكتبوا ما تريدون ولكم أن ننشره كاملاً غير منقوص.
قال صاحب العرض: – ما نريده مقرر ومحدد وهو حجز عدد من الصفحات، بتواريخ معينة، لقاء المبلغ الذي تحددون، وليس من حقكم رفض صيغتنا، فنحن إنما نشتري مساحة، ومن حقنا أن نزرعها صور المنقذ… ألستم معنا في أنه المنقذ؟!
-ربما، لكن الموضوع قبول الاعلان السياسي أو عدمه، ونحن لا نقبل مثل هذا الاعلان؟
-عجيب أمركم، أبحجة إنكم تملكون جريدة تتحكمون بآراء الناس، فلا تسلمون الناس مساحاتها وهي حق لهم، ثم إننا ندفع “حق” حقنا!
-ولكن…
وقاطعنا صاحب العرض: – أنتم ضدنا، إذن، بل أنتم ضد الحرية، وضد الإنقاذ،وضد إعادة بناء لبنان، ومع استمرار الحرب وإدامة سيطرة الميليشيات وغير الميليشيات، وتكرهون الحق والخير والجمال والسلام في الأرض؟!
وفيما نحو في حالة ذهول لحدة هجوم صاحب العرض، ومنطقه الأعوج الذي يريد رأيه مصوراً لا مكتوباً، وبالأجر المدفوع وليس بالأجر على الله، جاءتنا الضربة القاضية عبرصراخه:
-يا أخي احسبوا منقذنا مسحوقاً للغسيل! اعتبروه براداً، غسالة، تليفزيوناً، شقة مفروشة، ملهى ليلياً، صنفاً جديداً أو قديماً من الدخان، نوعاً من المشروبات الروحية، احسبوه بضاعة، أي بضاعة..
وانتهى الحوار الصاخب، وكان لا بد أن ينتهي بطبشة باب في وجه خصوم المنقذ وأعداء الحرية!
العرض الثاني جاء على ورق صقيل من وراء البحار ممهوراً بتوقيع “المخلص” الذي لم يحل اغترابه دون مكابدة القلق على مصير البلد الذي لم يظهربين أبنائه المقيمين ديغول لا بين المدنيين ولا بين العسكر!
خلاصة العرض بسيطة فينصها: “كم تريدون لتخصيص إحدى حلقات تقديم المرشحين للتعريف بمرشح نفسه..؟
“لقد اخترت منبركم لكي أقدم مشروعيلنهضةالمجتمع وخلاص الأمة، فاطلبوا تجدوا فكل شيء يهون في سبيل الوطن الغالي..”.
العرض الثالث، على التوالي، جعلنا نهرب من مكاتبنا لشدة الالحاح،
فالعارض مصر على “الشراء”، والشيك مفتوح كالبرنامج الذي يكمن فيه وفيه الرجاء!
ولما كان في البرنامج ما يذكر بالرئيس المبجل والمحبوب للأربعين مليون كوري، بصورته ذات الابتسامة الثابتة كالجوكندا، فلم نستغرب الالحاح ولا المطاردة، ولا السخاء في عروض الدفع.
والعارض نفسه أقام سوق نخاسة خاصاً يتولى مهام الدفع والقبض، والتشهير بكل من تسول له نفسه أن يجل كرامة مهنته وكرامته الشخصية فوق التلوث بنفايات المال المسموم!
فأما العرض الرابع فقد قدمه المنتخب نفسه رئيساً منذ سنين، وقدمه حضورياً ومباشرة وبالسلاح الأبيض.
قال: اكتبوا منيح وأنا حاضر…
ولما رأى في عيوننا آثار هشة أضاف فقال: – الله عطانيكثير، ويهمي أن توصلوا للناس صورتي كما اشتهيها، ولكم ما تشتهون!
ولأن الرجل عالم علامة وفيهم فهامة ومثقف بكل اللغات، ومحمل بكل العملات، وصاحب أمجاد في مختلف القارات، ومخرج أجيال في الجامعات، فقد أعجزتنا الدهشة وعقدت الخيبة ألسنتنا فلم يفتح الله علينا بردمنطوق، فكان إن أكمل فقال: – على أي حال أنا لا أطلب منكم المبالغة في الدعاية، فقولوا ما يجب أن يقال وما يخدم رئاستي، وسيكون عهدي عهدكم!
هذا غيض من فيض، مما تعانيه الصحافة والحياة السياسية في لبنان، هذه الأيام، من هذا البازار المفتوح، في ظل معركة رئاسة يراها الناس ويقول عنها كل المرشحين المنقذين والمخلصين إنها نقطة تحول وفجر جديد وقيامة للبنان المنشود!
ويحدثونك بعد ذلك، ولا يتعبون، عن مسؤولية الصحافة في إثارة الحرب، وتأجيجها، وتقصيرها عن اللحاق بموكب السلام وإعادة البناء.
ويقولون لك: من هؤلاء لك أن تختار رئيساً!

Exit mobile version