تتسارع التداعيات المذهلة للزلزال السوفياتي متجاوزة أي تقدير بحيث لا تضمن أن تكتب عن غورباتشوف فيقرأ القيصر أو أن تتوقع حركة من الجيش الأحمر فيدهمك الجيش الأبيض كطليعة – مرة أخرى – لجيوش “التدخل الأجنبي” في هذه الإمبراطورية الصائرة إلى الاندثار، كمعبر للتجدد بصيغة مغايرة لما ألفه العالم منها وعنها خلال ثلاثة أربع القرن الحالي!
لكأن العالم عبر تداعيات هذا الزلزال يشهد نهايات متعددة تتزامن معاً:
1 – نهاية الثورة البلشفية التي هزت الكون وغيّرت معالمه بأكثر مما غيّرت فيه الحرب الكونية الأولى التي كانت تسيرإلى نهاياتها المنطقية، آنذاك،
ففلاديمير ايليتش لينين وحزبه الشيوعي القليل العدد والصلب العقيدة، وجيشه الأحمر الهزيل الامكانات والسلاح، غيّروا كونياً في ما يتجاوز السياسة: غيّروا في الأفكار وفي الاقتصاد وفي الاستراتيجيات،
وباختصار صار العالم بعدهم عالمين: عالمهم هم وعالم الآخر، وكانوا – كعقائديين حملة رسالة – في موقع الهجوم بينما العالم القديم يتهالك أمام زحفهم الأسطوري.
2 – نهاية الحرب العالمية الثانية وحدودها التي فرضتها هوية المنتصرين وأدوارهم، والتي كرّست الاتحاد السوفياتي شريكاً كبيراً للقوة العظمى الحديثة الولادة آنذاك، الولايات المتحدة الأميركية، على حساب قوى العالم القديم، بريطانيا خاصة وفرنسا التي كان دورها كمنتصر رمزياً،
بالمعنى الايديولوجي كان النصر للاشتراكية على الرأسمالية باعتبار أن النازية والفاشية من تجلياتها،
وبالمعنى السياسي والاستراتيجي كان على العالم أن يسلس قيادة للقوتين العظميين الجديدتين (نسبياً)، بعدما تهاوت أو اندثرت قوى العالم القديم.
اليوم يبدو وكأن تلك الحدود التي رسمها ستالين والجيش الأحمر لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تتلاشى، جاعلة الدنيا كلها مشاعاً لقوة عظمى وحيدة… حتى إشعار آخر،
3 – نهاية العقائد (بعد الأديان) كقوى محرّكة للتاريخ الإنساني، في المدى المنظور، لقد انتهت الدول التي ترتكز أنظمتها السياسية إلى أيديولوجيات وعقائد، وسقطت الدول القائمة على حكم الأحزاب أو الحزب الواحد، مخلية المجال لدول اقتصاد السوق حركة رأس المال والتكنولوجيا والمعلوماتية.
الطريف أن من يعلن سقوط الحزب هو أمين عام الحزب وأبناؤه الشرعيون والذين وصلوا إلى مواقعهم في سدة السلطة باسمه ولأجل تنفيذ برنامجه.
لكأنهم يدينون آباءهم وتاريخهم لتبرئة أنفسهم ويستمرون في السطلة لينشئوا السلطة المعادية!!
4 – نهاية عصر الإمبراطوريات أو الدول المتعددة القوميات. وما ينقص في التجربة السوفياتية تقدمه التجربة اليوغوسلافية الدموية.
على الهامش، يمكن استعادة واقعة كتبها رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل في مذكراته عن لقائه في يالطا (التي ما تزال في بعض قصورها صور تاريخية نادرة له) مع “بطل” الاتحاد السوفياتي والنصر في الحرب العالمية الثانية ستالين، وكيف تم التفاهم معه، وإلى حد ما من وراء ظهر الرئيس الأميركي الراحل روزفلت، على “قسمة” البلقان.
يقول تشرشل أن جلسة المفاوضات بين الوفدين البريطاني والسوفياتي طالت عبثاً، واشتد الجدل بين الوزراء والخبراء، وأحس أن ستالين يكاد ينام… فمرّر إليه وريقة صغيرة مع سكرتيره الشخصي وقد “وزع” فيها مساحات النفوذ في كل من ألبانيا (100% شرق)، اليونان (75% غرب، 25% شرق) بلغاريا (75% شرق، 25% غرب) وصولاً إلى يوغوسلافيا (50% شرق مقابل 50% غرب)…
أخذ ستالين الوريقة، ونظر فيها من خلال دخان غليونه، ثم أمسك بقلمه وأشر بعلامة “صح” على ما جاء فيها، وأعادها إلى تشرشل، الذي استأذنه في رفع جلسة الجدل حول جنس الملائكة… وهكذا كان!
اليوم لا يستطيع أحد أن يؤشر بقلمه على خريطة عالم يخرج لتوه من الحرب العالمية الثالثة التي انتهت بغير قتال!
الوفد – السابقة؟!
إلى جانب الحدث السوفياتي الهائل بكل تداعياته الدراماتيكية، لا بأس من بعض “اللطائف” أو الطرائف اللبنانية، ولو من باب “الناس بالناس والقطة بالنفاس”…
وآخر الإبداع اللبناني هو هذا الوفد غير المسبوق الذي أعلن عن تشكيله للذهاب إلى الأمم المتحدة، في سياق جولة “كونية” لترويكا الحكم في لبنان.
الوفد يضم رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، ومعهم بالطبع وزير الخارجية، وبعض السفراء (أقله للتدليل على مشاركة سائر الطوائف)، ثم جيش من السكرتيرين والمرافقين والحرس الشخصي وربما من راكبي الدراجات الزاعقة أيضاً.
ولم يحدث قطعاً، في تاريخ الأمم المتحدة، أن استقبلت مثل هذا الوفد الذي سيربك أجهزة البروتوكول فيها إضافة إلى رئاستها وأمانتها العامة.
في حالات معينة كان بعض رؤساء الدول يقررون الذهاب بأنفسهم إلى المنظمة الدولية لإضفاء مزيد من الأهمية على طرح وفدهم، أو لاستدرار مزيد من العطف على قضيتهم.
أما أن يذهب رؤساء السلطات الثلاث في أي بلد فأمر لم يحدث ولا يعقل أن يصدر إلا عن دولة مثل لبنان: ولادة العجائب والغرائب والأساطير!
ها نحن، معشر اللبنانيين، نصدّر الطائفية وتمثيلها إلى الكون، ونفرض عليه أن يتعامل معنا بطوائفنا لا بدولتنا.
ها نحن نصدر الطائف الذي استوردناه كصيغة تسوية اضطرارية وانتقالية لمعالجة وضع داخلي متفجر، وكمانع لاستمرار الحرب الأهلية… بل ونباهي الكون بهذا الابتكار الذي يشكل إضافة لبنانية عبقرية إلى الحضارة الإنسانية وإبداعاتها في هذا العصر كعلم الفضاء والكومبيوتر واللايزر الخ.
البعض بادر إلى التذكير بسابقة الرئيس سليمان فرنجية العام 1974 للتبرير والتخفيف من وقع الفضيحة،
لكن تلك كانت مهمة قومية كلف العرب مجتمعين بها الرئيس اللبناني، لأسباب مفهومة ومعلومة، كي يتحدث في قضية فلسطين وعدالتها، ليؤكد إجماعهم عليها، وكان إن ارتأى الرئيس الأسبق أن يعزز موقفه بوفد يؤكد تضامن اللبنانيين جميعاً في هذا الموقف. فحشد في الوفد الرؤساء السابقين جميعاً كحركة رمزية ومعنوية لا أكثر ولا أقل.
أما وفد اليوم فلا مبرر له ولا صفة إلا أنه فضيحة وسابقة وبدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!
إن التشكيل العجيب لهذا الوفد يقول للعالم أجمع: إنه ليس من لبناني واحد، مهما علا شأنه وارتفع مقامه (الرسمي) يمكن أن يمثل لبنان أو يتحدث باسم شعبه أو يعبر عن موقف دولته،
لكأن اللبنانيين مجموعة من الشعوب بعدد طوائفهم ومذاهبهم، لا ينوب أحدهم عن الآخر ولا يحمل أي منهم تفويضاً من الآخرين، لكأنهم اشتات من القبائل والشعوب لا يجمع بينهم رابط، ولا يطمئن واحدهم إلى الآخر، ولا يأتمنه ويخاف أن يبيعه لـ “الغريب” عند أول “كوع”!
ومفهوم أن يتكرس في الداخل، وفي ظل مناخات الحرب الأهلية التي لما تنته، التمثيل الثلاثي لقمم السلطة في كل جناز وعرس و”طهو” وسائر المناسبات الاجتماعية،
ومفهوم أن تشتد المنازعات، داخلياً، حتى يؤكد كل موقع قوته (كشريك أساسي) للموقع الآخر،
أما أن نحمل غسيلنا القذر ونذهب به إلى أهم وأعلى منبر دولي لننشره هناك، فهذه فضيحة نموذجية،
إنه ترف لا يستطيع أن يتحمله بلد شحاذ يستعطي القروض والمساعدات من كل مكان، فلا يجد من يتصدق عليه،
كذلك فهي مسخرة لا تتناسب بأي حال مع الوضع المأساوي الذي ما زالت البلاد أسيرة له تحاول أن تتجاوزه فلا يُمكنها “أهل الحل والربط” من تحقيق هذه الغاية المنشودة؟
ومع التقدير للمناصب والألقاب فلا نفترض أن الرئيس الأميركي جورج بوش، أو الفرنسي فرنسوا ميتران، سيتأثر أو يزداد تعاطفه مع لبنان الجريح إذا ما استمع إلى رؤسائه الثلاثة يعرضون قصته التي يحفظها عن ظهر قلبه،
وفي العلاقات بين الدول لا تلعب المجاملات واللياقات و”مراعاة” الخاطر دوراً، وبالتالي فسيظل القرار 425 (ومعه لبنان) رهينة في يد العدو الإسرائيلي، ولن “يكرم” بوش “الوحدة الوطنية اللبنانية” وهي تتجسد في أروع تجلياتها بالرؤساء الذين سيكونون ثلاثة مثل أهرام الجيزة، أو ثلاثة بواحد مثل “الييس”!!
… ثم ماذا لو استخدم الأخوان الدروز أو الأرثوذكس أو الكاثوليك أو الأرمن حق الفيتو؟!
وتتداعى الأسئلة بلا نهاية لمن يحب أن يتسلى بالكلمات اللبنانية المتقاطعة، وبينها على سبيل المثال لا الحصر:
*هل للوفد رئيس واحد، وهل هو وحده الذي ينطق باسم الوفد، وبالتالي باسم البلاد؟! إذا كان الأمر كذلك فلماذا ذهب الرئيسان الآخران؟!
*إذا كان الثلاثة سيتحدثون، فثمة أولاً مشكلة فنية: هل سيتحدثون معاً؟! أم سيتناوبون على الكلام؟! وهل إذا ما اعترض أحدهم على رفيقيه سيبرر اعتراضه لمصلحة طائفته، أم برأيه الشخصي، أم بمخالفة اتفاق الطائف؟!
*ماذا بقي لوزير الخارجية في هذه الحالة؟! إنه “الرابع” في الوفد، فما قيمة رأيه إذن؟!
*هل المطلوب تكريس الصيغة الطائفية دولياً بحيث نقول بعد اليوم أن الأمم المتحدة تفرض مشاركة الرؤساء الثلاثة في كل أمر بما يلغي الدولة؟!
*أم ترى تدبر القيادة اللبنانية أمراً في المنظمة الدولية بأن تطالبها بإصدار وثيقة مكملة لحقوق الإنسان تركز على حقوق الطوائف والأقليات، ويا حبذا لو تطرّقت إلى المسألة الشرقية؟!
*وآخر الأسئلة: بأي لغة سيتفاهم رؤساؤنا الذين لا يشتركون في اتقان لغة واحدة، مع الآخرين، وماذا لو خدع بعضهم البعض في الترجمة؟!