في اللقاء النيابي بالطائف، وبرعاية عربية، بعثت “الصيغة اللبنانية” كقاعدة للوفاق الوطني،
وفي قمة دمشق، وبرعاية سورية مباشرة، وبمنطق اتفاق الطائف، بعثت “الدولة اللبنانية”، بما هي تجسيد للوفاق الوطني وإطار سياسي للالتزام بموجبات الانتماء العربي.
وبقي أن تشهد بيروت انبعاث “الحكم” ومباشرته سلطاته على التراب الوطني، بدءاً بالعاصمة، بقوة الوفاق الوطني وبالتحصين السوري وبالرعاية العربية المعززة دولياً.
“ما جئت، وما قبلت بهذا المركز لأكون شاهداً على التقسيم”، قال الرئيس الياس الهراوي،
“التقسيم ممنوع”، قال الرئيس حافظ الأسد،
“تقسيم لبنان مرفوض عربياً ومصدر خطر جدي على الأمن القومي العربي”، قالت اللجنة العربية الثلاثية،
“تقسيم لبنان يهدد مصير المسيحيين في الشرق كله”، قال الفاتيكان،
“تقسيم لبنان يصيب بالضرر مصالح الغرب في المنطقة، إضافة إلى كونه تهديداً للوجود المسيحي، ولا يمكن لعاقل أن يقره أو يقبل به”، قالت فرنسا،
“مجنون من يفكر بتقسيم لبنان، وهو إنما يرتكب عملاً تراه الولايات المتحدة الأميركية معادياً لها ومهدداً لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط”.
… ولقد ذهبت أيام سيادة الأوهام لدى بعض الفئات المتطرفة بإمكان تقسيم لبنان إلى “دولتين” أولاهما “مشروع وطني قومي مسيحي” والثانية “مشروع جمهورية إسلامية”.
انطلاقاً من هذا كله يتوجه اللبنانيون إلى الحكم مطالبين بتسريع الخطى على طريق استعادة وحدة البلاد، استعادة الدولة بمؤسساتها كافة، واستعادة الشعب بفئاته جميعاً، واستعادة التراب الوطني بإخراج المحتل الإسرائيلي.
لقد أسقط الرئيس الأسد ذرائع المتقولين أو المشككين بالموقف السوري من قيام الدولة في لبنان، واستطراداً من اتفاق الطائف، لاسيما ما جاء فيه حول انسحاب القوات العربية السورية.
بل لقد أكدت قمة دمشق إن السوريين أكثر استعجالاً من اللبنانيين على عودة قواتهم، بعدما قام في بيروت الحكم الذي يمكن لسوريا أن تعطيه ظهرها.
قال السوريون:
“نحن مستعدون للانسحاب من أية منطقة ترون أن قواتكم المسلحة الوطنية قادرة على تسلم زمام الأمن فيها”.
وقال السوريون:
“لن نتقيد حتى بالمواعيد المحددة في اتفاق الطائف، سنتقيد بقدراتكم وباحتياجاتكم الفعلية”.
و”الخطة الأمنية” لبيروت دليل مادي ملموس على استعداد السوريين للانسحاب وفقاً لقدرات الشرعية اللبنانية وبناء لطلبها، وبغض النظر عن المهل والآجال التي حددها اتفاق الطائف.
وفي واشنطن وباريس ثم في الأمم المتحدة سمع مبعوث الشرعية، الدكتور علي الخليل، تحريضاً للحكم على تسريع خطاه واستعادة زمام المبادرة والتقدم نحو هدف توحيد البلاد تحت لواء دولتها الجامعة.
كذلك فاللجنة العربية الثلاثية لا تفتأ تطالب الشرعية بإثبات وجودها وفعاليتها ومصداقيتها بل ولعلها قد بلغت في حالات معينة حد العتاب، حتى لا نقول الانتقاد أو اللوم.
من أين نبدأ؟!
أو كيف نبدأ والتمرد قائم في “الشرقية”؟!
وكيف في ظل هذا التمرد يمكن إجلاء الميليشيات عن “الغربية”؟!
وكيف بوجود الميليشيات يمكن تحريك عجلة الإدارة، في القطاعات المختلفة وصولاً إلى بلدية بيروت وتقاعسها عن رفع القمامة من الشوارع؟!
كل هذه الأسئلة أو التساؤلات لم تعد مقبولة، ولم يعد جائزاً طرحها، إلا إذا كان القصد التهرب من المسؤولية ومن اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته.
أكثر من هذا: لم يعد مقبولاً أن يستمر شلل الدولة بسبب شغور مراكز أساسية في إدارتها لغياب المديرين أو لاستنكافهم أو لترددهم بين شرعية الحكم الضعيف وقوة الحاكم أو المتحكم غير الشرعي،
وليس مقبولاً، بالمقابل، أن تصدر تشكيلات وتعيينات مرتجلة كالتي صدرت بضغط عامل الوقت أو مراعاة خواطر النافذين أو الحرص على التوازنات الطائفية الشكلية التي كانت بين أسباب سقوط دولة الاستقلال.
إن أمام الحكم اللبناني فرصة تاريخية، برغم التمرد ونتائجه وسائر الصعاب التي تعترض طريقه.
إن الظرف الاستثنائي قد يكون مبرراً للجمود والتراجع والتقوقع والتردد ومن ثم الموت، ولكنه قابل لأن يكون وسيلة دفع نحو الإنجاز، والمزيد من الإنجاز، ومستوى أرفع من الإنجاز، وفي مختلف المجالات.
وبقدر ما يمكن تبرير تعيين غير الكفؤ، أو الطائفي، بالظرف الاستثنائي، يمكن تخطي الجدار الطائفي وتجاوز المحسوبيات والهمشريات والعشائريات باستخدام المبرر ذاته: الظرف الاستثنائي.
وهذه تجربة تعيين قائد الجيش بكل مردودها الايجابي على الحكم.
إنها فرصة للحكم كي يبني إدارة استثنائية في كفاءتها وفي التزامها الوطني، حتى لو أغضب بعض أطرافه… فالكفاءة تفحم أصحاب الأغراض وتشل ألسنتهم، ثم إن الطائفية والوطنية خطان متوازيان لا يلتقيان إلى قيام الساعة.
وحرام أن يحشر المحاسيب إياهم، أو أن يستبقوا، أو أن يرفعوا، في ظل حكم تبدأ قوته في بيروت ويأتيها الزخم من دمشق وسائر العواصم العربية وصولاً إلى مجلس الأمن الدولي!
إن كل قرار للحكم يعجل في سقوط التمرد أو يرتد عكسياً فيطيل في عمره،
ومن الضروري معاقبة التمرد والمتمردين والذين يوالونه ويساندونه ويدعمونه مادياً أو معنوياً،
لكن الحكم يجب أن يظل “الراعي الصالح” والمرجعية الشرعية للمواطنين جميعاً حيثما كانوا.
العقاب للخاطف وليس لركاب الطائرة المخطوفة.
والتوقيت مهم جداً، فالوقت دائماً سلاح ذو حدين. وظالمة هي العقوبة بحق من لا خيار أمامه يخرجه مما هو فيه.
بهذا المعنى فإن استعادة بيروت كعاصمة وعودة الروح إليها هو المدخل الحتمي لمباشرة سياسة الثواب والعقاب،
فإذا كانت “الشرعية” فيها خائفة فلن تستطيع أن تدعو غليها من هم خارجها،
وإذا كانت الشرعية غير قادرة على بسط سيادتها ومباشرة سلطتها فيها فمن العبث أن تطلب ممن هم في الخارج أن يلتحقوا بها فيها.
إن المواطنين، في شطري العاصمة، كما في الجبل والشمال والبقاع والجنوب، ولاسيما الجنوب، يبحثون عن وينتظرون الدولة ليجيئوا إليها.
و”التمرد” ليس دولة ولن يكون،
لكن الحكم الشرعي من غير سلطة ليس هو الدولة،
وبيروت تستحضر الدولة وشرعيتها وتعطي المرجعية عنوانها الصحيح.
… وبيروت تنتظر الآن أن يأخذها الحكم مبتدئاً مسيرتها نحو الدولة، دولة كل اللبنانيين على امتداد وطنهم الصغير.