تنفس ملء رئتيك : إنه اليوم الأخير، وغداً يبدأ “العهد الجديد”!
لدينا الوقت لطرح الأسئلة الصعبة عن الآتي المجهول ومخاطره الهائلة، فلنفرح – للحظة – بانقضاء العهد القائم المعلوم والذي شكل في حياتنا كابوساً ثقيلاً امتد 2192 يوماً (مع لحظ السنوات الكبيس…)، فاستولد من الحرب حروباً كادت تدمر آخر ما تبقى من بلادنا ومنا.
إن الأحزان لا تحتاج إلى دعوة. لقد استوطننا الحزن واستوطناه، لذا فلا يجب أن نضيع التماعة فرح تشق قلب الليل الإسرائيلي المطبق على لبنان بواسطة الحكم الانقلابي الكتائبي الذي سيرحل منتصف هذه الليلة إلى غير رجعة.
مع زوال هذا الحكم ستبدأ نهاية الحقبة الإسرائيلية التي لطخت تاريخ لبنان والتي حاصرتنا فحصرتنا في المستنقع الطائفي حتى كادت تزهق أنفاسنا بعدما اغتالت هناءة أيامنا والآمال والطموحات العراض.
وما الفرق، بالضبط، بين سلطة مغتصبة كالتي مارسها حكم الانقلاب الكتائبي على امتداد عهده، فكادت تنهي “لبنان الدولة” بعدما أسقطت في لحظة قيامتها “استقلال الدولة ودولة الاستقلال”، وبين البقاء بغير رئيس للجمهورية؟!
المهم الجمهورية، ولقد تأخر الندابون كثيراً، فلقد نحرها حكم الانقلاب الكتائبي منذ أمد بعيد، ثم منع أن تتم قيامتها متزامنة مع رحيله، فلا باس من الانتظار بعض الوقت، إذا كان ذلك ضرورياً!
لقد انتهى هو، ولدينا فرصة أوسع لاستعادتها وإعادة بنهائها بعد رحيله، منا في ظله أو معه.
ولا بأس أن يقال إنه في اليوم الأول من خريف 1988، سقطت رئاسة الجمهورية ضحية من شغلها بغير وجه حق، وأيضاً ضحية من عجز عن أخذها منه بالحق، حق الشعب في أن يكون وفي أن تكون له دولة وفي أن يكون للدولة رئيس سوي، أي طبيعي لا أكثر ولا أقل.
في اليوم الأول من خريف 1988، سقطت رئاسة الجمهورية على الأرض. سقطت الطائفة على الأرض. سقطت الامتيازات على الأرض لأن المتمسكين بها عجزوا عن حمايتها في وجه هجوم الحياة بحقائقها الباردة وبقوة رياح التغيير التي تجتاح العالم، ولقد تضرجت الأرض بالأحمر، أم بعض العلم الأميركين فالأحمر مشترك، وهو منتشر يملأ الآفاق المزدحمة بالرايات المعروفة والمنسية!
ولقد بدأ السقوط حين سلم بسقوط الأرض، فلقد سقط الوطن، يومها، عن الأرض. متى سقطت من الوطن الأرض سقط الوطن وسقط المواطن، وسقطت بالضرورة الدولة والرئاسات.
وفي غد سترفع الصور من فوق الرؤوس المتعبة.
سينتهي التداخل بين الشخص والرمز، بين الرئيس والعلم الوطني، بين الحزب (الفئوي جداً والطائفي جداً). وبين السلطة التي يفترض أن تكون نقطة تلاق ومشاركة بين الطوائف. سينتهي التداخل المريع بين الطائفة وبين الدولة.
جميع الرؤساء، في “دولة الاستقلال”، كانوا موارنة، لكن الدولة بقيت على مسافة ما من الطائفة. معتلة كانت ومختلة التوازن، لكنها لم تنعدم وجوداً ولم تندثر حدوداً إلا حين اقتحمتها المؤسسة الأخرى، المؤسسة التي تعتبر الدولة في خدمة الطائفة، والطائفة في خدمة الحزب، والحزب في خدمة مؤسسه وذرية بيار الجميل حصراً.
الآن، يصور انتهاء الولاية وكأنه خروج للطائفة من الدولة، فتبدو الدولة وكأنها لم تعد ذات فائدة، ويعمل الانتحاريون، بهمة ونشاط وحيوية هستيرية، على تهديمها، تكون لنا الدولة أو لا تكون أبداً، نخربها ثم نهجرها وليكن من بعدنا الطوفان!
في اليوم قبل الأخير جاءت “الضربة المسرحية”: مدوية، كالعادة، مفاجئة، كالعادة، وبلا نتائج (طيبة) كالعادة… أفيجوز أن ينتهي عهد “الصرعات” من دون “صرخة” أخيرة؟!
بعد طول احتجاب، وفي ظل عجز الجميع عن إيجاد المخرج، عاد بطل مغامرة الإنقاذ إلى الضوء،
امتطى صهوة الطوافة مباغتاً الجمهور القاعد الذي لا يملك غير الانتظار، وغير ترقب مفاجأة ما في أي مكان تخرجه من صحراء الرماد واليباب واليأس، وتعيده إلى قلب الموضوع أو تعيد إليه الموضوع الذي طال اغترابه عنه.
لقد أراد أن ينتهي ببداية جديدة. أنهى الجميع، ومن ثم عاد ليحتل المسرح وحده، ونجح المنقذ في أن ينقذ نفسه، ترك السفينة الغارقة ونجا بجلده. بعد ذلك سننتظر ما يكون ثم ننظر فيه.
افترض الشاطر إنه قد ينجح في الالتحاق بالموكب الآتي ليخلفه، قافزاً إلى القطار في اللحظة الأخيرة، شطارة؟ ربما، لكن ترى كم كلفتها؟!
آخر الراحلين هو… لكن هذا ليس ذنبه، لقد قبل الآخرون أن يرحلوا قبله، وأن يوسعوا له هامش المناورة، فناور، وأسقط في أيديهم، فخرجوا من لدن بطريرك بكركي لا يعرفون ماذا يقولون، ولا يدرون ماذا سيفعلون، وكيف يوقفون حركة عقارب الساعة وهي تتقارب فتزيد من ارتباكهم ومن حسرتهم على الزمن الثمين الذي ضاع هباء وهم يهربون إلى الأمام!
بعد طول احتجاب، عاد رجل الصرعات إلى الواجهة: ركب الطوافة وقادها. هذه المرة، في وجهة أخرى، غير متوقعة، لم يقصد إلى القطارة، كما فعل من قبل. ففي 21 أيلول لا يذهب إلى القطارة إلا الطفار. أما الذين يريدون السلطة، ولو من موقع الشريك، أو المشارك، أو حتى الشريك المضارب، فيقصدون دمشق، وإلى دمشق قصد الرئيس الطائر!
في الطوافة استمتع بأن وجد نفسه في الموقع الذي يجب: فوق الجميع، لا تربطه بالأرض ومن عليها رابطة، حر في حركته، يميل يميناً ، ينعطف يساراً، ينخفض قليلاً ليرى ما يحب رؤيته، ثم يرتفع حتى لا يراه من لا يحب أن يراه. يعبر من فوق الرؤوس المهووسة، المسكونة بالحيرة والضياع والقلق على المصير، ويكاد يمد لهم لسانه: حتى دمشق لا تجد مانعاً من استقباله!
من بكفيا إلى دمشق، من دمشق إلى اليرزة، من اليرزة إلى بكركي، من بكركي إلى بعبدا: كل الطرقات مفتوحة له، حتى تلك المغلقة على غيره!
بماذا عاد؟!
ليس مهماً ما سيكون بعده. المهم إنه دخل إلى عهد ما بعده، أو هكذا يفترض، وهذا أقصى النجاح!
ما أطول اليوم الأخير من الولاية الدهرية طولاً!
لقد احتشد في بابه الرؤساء، يطلبونه، يحادثونه، يتمنون عليه، يلحون عليه أن يقبل شفاعتهم في بلده: الأميركي، الفرنسي وبعض العرب… ثم إن قداسة البابا ذاته توسط للبنان، الجمهورية وشعبها، لديه. إنه المقصد والمرجع، بل هو مرجع المراجع. أليس هو الشرعية؟! إذن فليستنفدها حتى القطرة الأخيرة، حتى الثمالة، ولينعم برحيق الشرعية التي لما يتبق منها شيء لغيره.
في غيابه انكشف عجز الجميع عن اتخاذ قرار،
وبعد عودته تحول العجز إلى فضيحة مدوية.
والمستر سمبسون لم يهتم كثيراً للغياب الطارئ. فقال رأيه فيهم بفظاظة!
قال إن الجمهورية بحاجة إلى عناية فائقة تحميها من رئاستها ومن الطامحين إلى هذه الرئاسة!
وقال إن الولايات المتحدة الأميركية تكن احتراماً للمؤسسات، أي لرئاسة الجمهورية وللحكومة وللمجلس النيابي، بحيث إنها ستحميها مهما كلف الأمر… وقال، ضمناً، إنها ستحميها من اللبنانيين وقياداتهم أساساً!
وقال كثيراً فاستنفد الكلام، حتى إن اجتماع بكركي النيابي الموسع لم يجد كلمة يقولها بعد دور انعقاده الثاني، فقرر أن يلتقي كرة ثالثة صباح اليوم، لعل المجتمعين يعثرون على ألسنتهم، ويستنبطون في هدأة الليل المفضض بضياء قمر يكاد يصير بدراً ما يواجهون به الموقف الصعب هذا الصباح،
شر الصباح ولا خير المساء، هكذا قالت الأمثال.
فلننتظر مع المنتظرين. الم ندمن داء الانتظار؟!
الجمهورية باقية، والرئيس ذاهب، وقد تذهب معه الرئاسة، لكن لبنان أكبر من رئيس وأكبر من رئاسة.
والشمس ستشرق غداً حتى لو لم يجتمع النواب المساكين في المقر الدائم بساحة النجمة، أو في المقر المؤقت بقصر منصور. هم سيرون نجوم الظهر في الحالين، ونحن معهم!
وسيجيء 23 ايلول ويمضي مخلياً المكان ليوم السبت الواقع فيه 24 أيلول، ثم للأحد 25 منه وهلم جرا.
المهم أن نبقى ونستبقي ما يبرر وجود الجمهورية.
والصباح رباح، وسيفتحها علينا الذي لا ينام الليل… المهم أن ترفع صوتك مع الصباح بهتاف: يا فتاح يا عليم… وأن تستدرك فتقول: افتح يا “سمبسون”! وستنفتح مغارة الكنز المرصود، ويطل فجر العهد الجديد!
وكل عهد وأنتم بخير!
وتحية للذي قال، قبل ألف سنة ونيف:”مورونو يونو يونوءم تاكسي” وترجمتها: إن الموارنة لا يحبون الانضباط في الصف!
والأمر لله، من قبل ومن بعد، خصوصاً وإن المستر سمبسون يحب الانضباط، وقد قالها كلمة، أمس، وعلينا أن ننتظر أن “تصير الكلمة زلمة”، كما كان يقول الرحابنة الذين أخافونا طويلاً من “راجح” ثم باغتونا مع النهاية بأن راجح بياع خواتم لا أكثر!
والأمور بخواتيمها!