ما أبعد اليوم عن البارحة، وما أبعد الخيانة عن السلام، وما أبعد السيف عن مقبضه والمقبض عن اليد واليد عن الفؤاد والفؤاد عن القرار والقرار عن إرادة الرجال!
قبل خمس سنوات فقط، تبدو الآن وكأنها قرن من الزمان، وكانت الأمة تخوض – بدمها – امتحان الجدارة بالحياة وتنجح فيه بكفاءة حفنات من فتيانها الغر الذين أمدهم القرار – الإرادة بالعزم الكافي وبالزخم الكافي لقهر كل أنواع الحواجز: من قناة السويس، إلى هضاب الجولان، إلى قمم جبل الشيخ حيث كان المرصد الشهير.
أثبت الرجال أنهم الأقوى حين يسمح لهم بارتداء ثياب الشهادة.
وتحقق الرجال – بفضل سخونة الجراح – إن الوطن يختزل كل ما هو حبيب ورائع ودافئ، من الأم إلى الزوجة إلى الأطفال، من الأمنية إلى الأمل إلى الحل السني، من الشجرة إلى الزهرة إلى خرير الساقية وأصوات الثغاء والهديل واللحن الشجي.
وأعاد الرجال اكتشاف الحقائق البسيطة: عندما يكبر الهدف يصغر شأن الموت، وعندما يقترب الحاكم من الوطن يكبر الحاكم فإذا ابتعد صغر هن، ولم يصغر الوطن، وإن الوطن عنده الكثير ليعطيه، وإن ما يعطيه الوطن يخلد صاحبه بينما ما يعطيه الحاكم غالباً ما يكون على حساب الوطن والمواطن ثم إن “عطيته” تصبح تهمة ومصدر شبهة تنتقل مع الإرث إلى الأحفاد.
وفي لحظة اليقين الباهرة، توحدت في عيون الرجال القيم جميعاً والمفاسد جميعاً: فالمقاتل هو الوحدوي وهو الثائر وهو الكادح وهو المؤمن، هو الشريف وهو الطيب، هو صاحب القضية، هو صاحب الأرض وصاحب الحق بثرواتها، هو المعادي للاستعمار والإمبريالية والصهيونية حتى لو لم يكن يعرف كيف ينطق هذه الكلمات الكبيرة، وإن الهارب من القتال هو النقيض إلى حد الاندغام في العدو… بل إنه أولى بالرصاصة من الغاصب والمحتل والدخيل.
ما أبعد اليوم عن البارحة، لكن رمال سيناء لا يمكنها أن تغطي ملامح القاتل، وجنباتها تضج بنبض الشهداء – الأحياء، الفاغرة عيونهم وفيها صورة مصر الفلسطينية وفلسطين المصرية حتى العروبة.
والجيش المصري، عابر القناة، هادم خط بارليف لن يتحول برمته إلى طباخين مقهورين وإلى عمال في محطات البنزين منفيين بالفقر إلى أربع رياح الأرض.
… والجيش العراقي سيعود إلى موقعه الطبيعي، في مواجهة العدو الإسرائيلي، كتفاً إلى كتف مع الجيش السوري ومع المقاومة الفلسطينية التي ستبقى مشدودة إلى قضيتها برغم المناورات والتلويحات التي تستهدف ترويضها وتدجينها وتحويل فدائييها إلى مجموعة من صعاليك الحكم الذاتي في ظل الحراب الإسرائيلية.
… والجيش السوري لن يقع في الفخ الذي نصبوه له لإغراقه في رمال لبنان المتحركة، وسيظل واعياً إلى حقيقة إن أعداءه في لبنان هم المتعاونون مع إسرائيل، وهم دعاة الفتنة الطائفية، أما الشعب – كل الشعب ، في الشرقية كما في الغربية، في الحدث وعين الرمانة والأشرفية كما في البسطة والشياح ورأس بيروت – فهو شعبه، منه الأم والأب والعم والخال والأخ والابن والصديق والرفيق وشريك المصير.
ما أبعد اليوم عن البارحة وما أبعد الفتنة عن حرب التحرير، وهم يحاولون إغراقنا في الأولى لصرفنا عن الثانية.
لكن الوحدة ستظل ذلك “السحر” الذي لا يقدر على أبطاله أحد، بما في ذلك الكومبيوترات الأميركية، لأنها هي هي الحقيقة الباقية وكل ما عداها زائف ومصطنع وباطل يتهاوى في لحظة واحدة كما في 6 تشرين أول (أكتوبر) العظيم.
وهم الآن يحاولون تكريس الحدود الفاصلة بين الأقطارن بل وبين الطوائف بالدم بدلاً من الجمرك والهجانة.
لكن في صفوف الأمة ملايين وملايين ينتظرون الآن ويلحون في طلب ثياب الشهادة ليصنعوا الغد الأفضل، فهم يعرفون – بحكم التجارب الغنية – أين يجب أن يبذلوا دماءهم رخيصة.
ويعرفون أيضاً الفارق يبن القاتل والمقاتل… ولن يرحموا قتلة شعوبهم.
ولن يستطيع السادات والساداتيون، على قوتهم وخطورة دورهم، أن يغروا الأمة بالانتحار.
ولن يستطيع السادات والساداتيون، على قوة مسانديهم وخطورة الدور الذي يلعبونه أن يغروا الأمة بالانتحار، وأن يقنعوها بأن قدرها الإسرائيلي يفرض عليها قبول الحقائق مقلوبة فيصبح الاحتلال هو المطلب لا الحرية، والتجزئة هي هدف النضال لا الوحدة، وحكم العشيرة أو الأسرة أو الدكتاتور هو الأمنية وليس الديمقراطية.
ما أبعد اليوم عن البارحة: لكن آخر الليل نهار، وأطفالنا الذين ولدوا في قلب الصراع وعبره سيعرفون بالتأكيد من هو المجرم الذي حرمهم حق أن يعيشوا طفولتهم كما كل الأطفال في العالم، وحق أن تكون طريقهم إلى المستقبل مفتوحة، وليست مغلقة بالجثث والبيوت الخربة ومعالم الحياة المحروقة.
ما أبعد اليوم عن البارحة،
لكننا ما زلنا نقول ما أقرب البارحة إلى الغد، فمن نجيع الشهداء الذين صنعوا مجد 6 تشرين الأول (أكتوبر) ستنبت الزهور الجديدة والشمس الجديدة وإرادة الحياة الجديدة في لبنان كما في سوريا والعراق ومصر العظيمة التي ستظل أكبر من السادات وأبقى وفي فلسطين التي يعرفها التاريخ حقيقة ولن يستطيع أحد أن يحولها إلى أكذوبة أو خرافة توراتية.