الدولة مع “الجملة” وضد “المفرق”،
وهكذا فإنها لا تعتقل قاتلاً واحداً، ولا تطارد مطلوباً في قرية، وإنما تترك القتلة والمطلوبين يتكاثرون مطمئنين إلى “غفلتها”، فإذا ما اطمأنوا باغتتهم بآلاف الجنود والمخبرين والعيون، وعشرات المجنزرات والآليات والطائرات وكل حديث من الأسلحة خفيفها والثقيل.
وللمطاردة أصول:
يبدأ الحديث عنها قبل موعدها بأيام في الصحف،
ثم ينطلق المسؤولون من رؤساء ووزراء في الإشارة إليها تلميحاً فتصريحاً حتى يكاد واحدهم يسمي المعنيين بالحملة،
وتهدر الإذاعة ببلاغات ما قبل الحملة الصادرة عن المحافظين والقائمقامين والمختارين وحراس البلدية،
ويشد التلفزيون أعصاب الناس في التمهيد لأفلام الرعب والإثارة التي سيقدمها في البرنامج المقبل عن الحملة،
وتبلغ الدول المجاورة حتى لا تفاجأ فتحسب في الأمر زحفاً، لا سمح الله، أو تهديداً لبنانياً باحتلالها،
وهكذا، في سرية كاملة بل ومطلقة، تنطلق جحافل الجنود ناشرة هيبة الدولة في الجرود، رافعة أعلامها فوق جميع القرى والدساكر والمزارع المهجورة، ملقية القبض على كل دجاجة وديك وحمامة (وأحياناً على كل قرقور وجدي) سولت له نفسه الإمارة بالسوء الخروج على القوانين وشق عصا الطاعة على عدالة السلطة التي شهد بها التجار والصناعيون والميسورون عموماً، وكذا أهل الفرنجة من أميركان وإنكليز وفرنسيس وطليان ويونان محترمين.
و”تعثر” الحملة على أسلحة خلفها العصاة عند هربهم أمام سيف السلطنة الطويل، فتصادرها لتوزعها من بعد على عبيد الله الطيبين من الرعايا الحسني السلوك والسيرة الذين يطلقون الرصاص جزافاً بل يحتفظون به للمناسبات السعيدة كمثل المآتم وختان الأنجال والأفراح والطرب لقولة قوال زجل مجيد، وأعياد الرؤساءن وعودة الكبراء من الحج والتبشير بسنة جديدة، أو لقتل الضجر والسكون وهدأة الليل المزعجة بصمتها الثقيل.
كذلك تعود الحملة بمجموعة من المخالفين الأشرار الصادرة بحقهم مذكرات جلب لأن أولهم ألقى أوساخاً على الطريق العام (وماذا يعنيه أن تكون الطريق مسفلتة أو ترابية ومنقشة بروث البقر والدواب؟)، ولأن ثانيهم بنى تصوينة لزريبة الماعز من دون ترخيص، ولأن ثالثهم تجرأ على الدولة فسبها، ولأن رابعهم جدف ضد العزة الالهية ناسياً أو متناسياً كون الدولة ظل الله على الأرض وحامية حمى السماء والأنبياء والأغنياء والأثرياء والوجهاء الاباء منهم والأبناء، الأصهار والأشقاء ممن خصهم الله بفضله فقدمهم على غيرهم وتولى الجند ببنادقهم وحرابهم تأكيد هذا الفضل وتكريسه قانوناً أبدياً.
أما المطلوبون الحقيقيون فيعيشون لحظات ولا أمتع وهم يرون الدولة تصفي لهم خصومهم وتؤدب نيابة عنهم كل “متمرد” أو “متفلسف” يحاول تغيير سنة النظام في رعاياه،
ومرة أخرى:
يا أبناء المستعمرات اللبنانية من المصلوبين على خشبة النظام الفريد اتحدوا في وجه دولة المطلوبين!