أخيراً، وبعد طول انتظار، وصل اليوم، ولم يصل العيد، وظل الفرح غصة تختنق بها الحناجر في حين تمسح العيون دمعها بصمت الفجيعة!
لقد أعلنت “الدولة”، ولكن أين فلسطين؟!
وتقرر أن تقوم “الحكومة”، في الوقت المناسب، لكن وقت “الثورة” قد آذن بالانتهاء وصار حديثها من ذكريات أيام الشباب!
كل شيء جاهز: العلم، النشيد، القائد العام والقيادة، الوزارات والسفارات، الاتصالات الدولية والاعترافات، ويوم الاستقلال الوطني والهتافات والاحتفالات… لكن الوطن نفسه غائب، لأنه ما زال معتقلاً وأسيراً تحت الاحتلال الصهيوني!
لقد اعترفنا بهم، بكيانهم ودولتهم والاحتلال، وسلمنا بهم شركاء لنا في أرضنا، بل وتنازلنا لهم عن معظمها، واستسلم الكلاشينكوف والدانة والرمانة والكاتيوشا والستريللا وكل الأسماء الحسنى التي أطلقناها، بالأمس، على فتياتنا والصبيان،
لكنهم لم يعترفوا بنا، ولن يعترفوا ما لم نقطع رأس آخر فدائي، وما لم نكسر أصابع آخر حامل مقلاع وضارب حجر!
مع ذلك فلقد أعلن، بعيد منتصف الليل بتوقيت غرينتش، في نادي الصنوبر، قرب الجزائر العاصمة، قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس المقدسة…
وهتف “الحكيم”، وقد شفه الوجد: الوحدة، الوحدة حتى النصر!! مقدماً، في مرحلة “الدولة” الوحدة على الثورة المغدورة،
أما البدوي الماركسي الشرق أردني فقد وقف بتقبل التهاني لأن مشروعه قد انتصر أخيراً على العرب جميعاً، ومن ضمنهم الفلسطينيون، فأقيمت الدولة الفلسطينية على الأرض الجزائرية بمباركة سوفياتية ورعاية عربية وتأشيرة دخول أميركية!
بوسع الفلسطيني، الآن، أن يبادئك بالهجوم فيصرخ بك محنقاً: من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه “الدولة” بحجر!
وبوسعه أن يؤنبنا جميعاً فيقول: ليست دولكم أعز من دولتي ولا أمنع! دولتي من ورق، ودولكم من كرتون!! دولتي مشروع منحة أميركية – إسرائيلية، ودولكم منح إنكليزية أو فرنسية سرعان ما دانت بالولاء للولايات المتدحة وجاهرت بالتوبة عن التحرير وطلبت من إسرائيل الأمان والسلامة للنظام الحاكم المتطوع لأن يخدم كحرس حدود لشذاذ الآفاق في دولتهم الزعومة!
وبوسعه أن يباهينا بالاعتراف الصريح: لست أول من فرط أو انحرف، فمعظمكم من السابقين على طريق الخيانة والاعتراف بالعدو، إن كنتم تصنفون عملي خيانة للأرض والقضية!
وبوسعه أن يخزق عيوننا بأصابعه وهو يتهمنا مباشرة: لقد ذقت من أنظمتكم من العذاب والقهر والظلم ما لم أذقه من العدو الإسرائيلي… بل إن العدو كان يظهر ديموقراطيته من خلال استبقائي حياً في أسره، في حين كانت أنظمتكم تقتلني مرتين، مرة بمنعي من تحرير أرضي ومرة ثانية باتهامي في وطنيتي وفي استعدادي لبذل دمي من أجل تحريرها!
بوسع الفلسطيني أن يفحمك حتى يرتج عليك الكلام، بالقول: أنا آخر الكتائبيين بينكم! لقد توزعتم على كياناتكم وحصنتموها بخنادق الدم، دم أخوتكم، وجعلتموني فلسطينياً في حين كنت أولكم قومية وأنتم عرب!
بوسع الفلسطيني أن يبكي ويستبكيك وهو يقول: أنا بطل الحرب الأهلية العربية، لأنكم هربتم من ساحة التحرير والوحدة فكان لا بد أن تقتتلوا، ولأني بلا أرض فلقد كنت طعم النار في كل أرض!
وبوسع الفلسطيني أن ينتحب ويجعلك تلطم وهو يعول قائلاً: دولتي هذه هي البنت الشرعية لهزيمتكم الدائمة! فكيف كنت تتوقع انتصاراً مؤزراً في موقع محاصر في حين تعاني الأمة برمتها من هزيمة ساحقة ماحقة مبعثها الداخل وحكام الداخل قبل أن يكون الخارج والأعداء الذين في الخارج!
لكن العذر، على وجاهته، لا ينفي وقوع جريمة الاغتيال، اغتيال الحق الفلسطيني (والعربي) في الأرض الفلسطينية (العربية).
و”الدولة” التي أعلنت في الليل الجزائري الثقيل مبرأة من شبهة الانتماء العربي لن تعوض الفلسطيني ما ينقصه، ولكنها ستحرم العربي رباطه المقدس بوطنه الكبير وبتاريخ نضاله الممتد أجيالاً طويلة.
وبرغم التحفظات العديدة في النص، فإنه يتضمن اعترافاً بإسرائيل بينما هو يرتكز على قرار دولي (242) يلغي اسم فلسطين وشعبها فكيف بالدولة المستقلة؟!
مرة أخرى تكون القضية: الانحراف والثمن، الجريمة والعقاب!
فإذا كان السادات قد خسر حقه في التعويض لأنه أعطى كل ما يملك حتى من قبل أن يخرق الجدار النفسي ذاهباً إلى العدو، فكيف وماذا سيكسب الفلسطيني إذا كان قد سلم أسلحته من قبل أن تبدأ المعركة الحاسمة لإعادة استيلاد فلسطين الموءودة؟!
وإذا كانت العقوبة العربية للسادات على فعلته قد اقتصرت على سحب السفراء ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة، فإن ياسر عرفات يستطيع أن يباهي الآن بأنه قد “فعلها” ثم نال مكافأة الاعتراف والمباركة ووضع حجر الأساس للسفارة الأولى (… أتراهم نسوا إن إيران الثورة حولت سفارة إسرائيل إلى سفارة فلسطين في طهران؟!) في أرض المليون شهيد!
لعلهم الآن قد تزايدوا بعدما ضد ما سقط من فلسطين إلى القائمة!
دولة فلسطينية مستقلة على أرفض فلسطين، ولا أرض مستقلة ولا فلسطين، وارض لبنانية ولا دولة ولا استقلال،
ودول عربية كثيرة، كثيرة، وكثيرة، ولا عرب يفعلون فيغيرون واقعهم المهين، فيلغون دولهم الكرتونية ليؤكدوا عروبتهم بل هم في الغالب الأعم يلغون هويتهم القومية ليستحدثوا مزيداً من الكيانات والخرق المزركشة كثياب عيد الفقراء، ولا عيد…
هليلويا، هليلويا، لقد زاد للعرب دولة،
إذن لقد نقصت العروبة حتى تكاد تندثر،
فالمعادلة ثابتة: تزيد الدول فتنقص العروبة، وتزيد الثروة فيتناقص الترابط، وتتكدس الأسلحة فتقعد الهمم عن التحرير، وتكبر أحجام الجيوش والأجهزة فتضمحل الديموقراطية والحريات، وتزيد ألقاب الرؤساء – والملوك – السلاطين – القادة فيختفي الشعب،
… وماذا فيها: دولة بالزايد!!
أبداً، إنها دول الدول جميعاً. دولة الانحراف الفلسطيني، والعجز العربيز دولة التفريط الفلسطيني والهزيمة العربية.
إنها دولة الاعتراف بالأمر الواقع العربي، وبخضوعنا المطلق لأولي “الأمر” فينا إنها دولة الاعتراف بالسيد الإسرائيلي.
إنها دولة الاعتراف بالعصر الأميركي،
إنها دولة الهزيمة العربية في فلسطين، بقدر ما هي كامب ديفيد دولة الهزيمة العربية في مصر الخ..
.. فحتى الهزائم العربية مستقلة واحدتها عن الأخرى، إذ لكل قطر هزيمته الخاصة التي لا يجوز أن يشاركه فيها قطر آخر!
إنها دولة الاعتراف بأن زماننا الماضي قد مضى وانقضى وإن زماننا الآتي لم يأت بعد،
وسيظل “العيد” وفرح العيد غائباً حتى يأتي الزمان العربي،
وهو لن يأتي إلا من فلسطين جنوبها، غربها، شرقها، والشمال اللبناني المقاوم باسم أمته الجريح جمعاء.