كما إن الصحراء تنبت الشوك لا الورد الجوري، فإن الطائفية تلد مسوخاً لا مواطنين أصحاء، وتدمر الوطن إذا كان موجوداً فكيف إذا “كلفت” بمهمة خلقه؟!
ثم إن الطائفية التي لا تعترف بالشعب كوحدة، ولا تسلم بتساوي البشر، لا يمكن أن تسمح بصراع ديمقراطي على قاعدة المصلحة أو الانتماء الفكري، بل هي تسمم الهواء وتطارد خيوط الضوء فتغتال أشعة الشمس وتحرّم الحرية فتهدد البلاد بالموت اختناقاً، وتفرض على الإنسان خياراً محدداً: أن يقتل الغول الطائفي أو يتركه ليلتهمه ومعه كل ما له صلة بالحق والحب والخير والجمال، فيخسر مجد الدنيا وادعاء الاستشهاد من أجل غد أفضل.
… وها نحن نواجه، الآن، بعض نتائج النجاحات الباهرة التي حققتها الطائفية عبر سنوات الحرب الأهلية الطويلة التي يصح التاريخ لها بهزيمة 1967 بوصفها القابلة القانونية للحلف الثلاثي (1968)، المعقود له لواء البطولة في هذه الحرب القذرة والمفتوحة خصيصاً لمنع الحرب الأخرى الضرورية وفي ميدانها الصحيح.
لقد وصل أمين الجميل إلى رئاسة الجمهورية، ومن قبله شقيقه بشير، بوصفهما ابنين شرعيين لأعتى مؤسسة طائفية في المنطقة العربية، حزب الكتائب.
وما كان ممكناً أن يصل أحدهما (فكيف بالاثنين؟!)، إلا في ظل نصر عسكري إسرائيلي على الأمة العربية، وبالتحديد على القوى القائلة بالتغيير وبالثورة وبالكفاح المسلح، والتي لا يمكن أن تكون طائفية، وبغض النظر عن مدى صدقها في القول أو في الممارسة لتحقيق أهداف نضالها.
على إن استمرار أمين الجميل رئيساً كان رهناً بأحد أمرين:
*الأول – أن يتحمل النصر العسكري الإسرائيلي إلى نصرسياسي كامل فتدمر إرادة التغيير في الأمة، وتتبعثر طاقاتها وإمكاناتها الهائلة، بأكثر مما هي مبعثرة، مما يجعل العودة إلى أي نوع من التوازن في القوة أمراً مستحيلاً.
*والثاني – أن يتغير أمين الجميل تغيراً كاملاً شاملاً، فينكر أصله وفصله والمدرسة التي تربى وترعرع فيها، ويصير – وقد بلغ موقع المسؤول الأول – مواطناً سوياً… وبتعبير آخر: أن ينتصر أمين الجميل على نفسه وتاريخه فيخرج من الحزب الطائفي المغلق إلى الأفق الوطني المفتوح على الناس جميعاً وحقائق الحياة جميعاً.
لكن النصر العسكري الإسرائيلي ظل أضعف من أن يحقق أهدافه الكاملة، فانكفأ مرتداً على مجتمع الدولة – العدو بما يشبه الزلزال، إذ تسبب في خلخلة البنى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية لأسبارطة القرن العشرين.
ذلك إن طبيعة الصراع العربي – الإسرائيلي تجعل نصر الإسرائيلي المطلق مستحيلاً مهما تعددت الهزائم العسكرية العربية… فإسرائيل جيش لا شعب له، والأمة العربية أمة عريقة وشعب تعداده يناهز المئتي مليون، وقد يهزم أحد جيوشه أو بعضها، لكن الشعب العظيم قادر على الوقوف مرة أخرى، وإعداد جيش جديد، أو تخطي الجيوش جميعاً والاندفاع ليواجه العدو بلحمه الحي، كما شهدنا ونشهد كل يوم في جنوب لبنان، وفي أنحاء فلسطين المحتلة.
ثم إن سوريا استطاعت، وبسرعة أن تعوض خسائرها العسكرية، وإن تطور إمكاناتها محققة قفزة نوعية، بفضل إصرار شعبها على المواجهة، وقدرة قيادتها على الارتقاء بالعلاقة مع الاتحاد السوفياتي إلى نمط متقدم من الصداقة والتعاون كاد يبلغ حد التحالف الاستراتيجي.
وهكذا تم إحباط أحد أهم أهداف غزو 1982 وهو جر لبنان (البلد العربي الثاني، بعد مصر السادات)، إلى معاهدة صلح منفرد مع العدو الإسرائيلي كالتي جرى العمل لها تحت لافتة “السعي لإخراج المحتل باتفاق 17 أيار”،
ولقد كان للمقاومة الباسلة التي خاضتها الجماهير الشعبية في لبنان، دورها المجيد في إنهاك هذا الحكم الذي وصل بدبابات العدو، ثم حاول الإفادة منها لفرض هيمنته الكاملة على البلاد والعباد، واندفع خارجاً على وطنه وأمته إلى حد فرض الحرب على كل المناطق والطوائف والفئات، في بيروت والجبل والضاحية وصولاً على شرقي صيدا وبعض أنحاء الشمال.
وكان بهيدياً، من ثم، أن يفتدي أمين الجميل رأسه وموقعه فيتراجع عن نهجه الاستسلامي أمام العدو مضطراً وتحت وطأة الضربات الموجعة التي أصابته وأصابت من قبله ثم معه هيبة “جيش الدفاع الذي لا يقهر” والجيوش الغربية الأخرى التي قدمت على عجل لإنقاذ إسرائيل من ورطتها (تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية وبقيادة نيوجرسي الشهيرة)
لهذا فقد كان صادقاً معه من قال له: “كفى كلاماً عن دورك في إسقاط اتفاق 17 أيار، كل ما هناك إنك أعطيت شرف دفن جثة 17 ايار بعدما قتلته الذين قاتلوه فأسقطوه…”.
لكن أمين الجميل أراد، مرة أخرى، أن يجرب شطارته، فيجري مقايضة خلاصتها: أعطيكم اتفاق 17 ايار وأعطوني الحكم!
ولأنه لم يتغير وما كان ممكناً أن يتغير، (فأين يذهب بتراث أعتى مؤسسة طائفية، وهو سليل المؤسس والرئيس الأعلى) فلقد استمر أمين الجميل على نهجه ذاته: إلغاء أو تجاهل كل القوى الحية في البلاد، والاصطدام بكل معترض على الهيمنة، أو على محاولته التفرد بالسلطةن وزج الجيش في معارك يائسة ضد جموع شعبه، ثم التصرف بمقدرات البلاد على نحو دمر اقتصادها المتهالك أصلاً بفعل الحرب ومغامرات المضاربين الذين صار القصر الجمهوري في عهده منتداهم وعنوانهم الثابت.
وكان لا بد أن نصل إلى ما نحن فيه الآن:
على سدة السلطة رئيس يقاطعه الجميع، تقريباً، وتعارضه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ويعاني من أزمة ثقة فيه حتى الذين لم يتخلوا عنه وبقوا معه إما وفاء وإما طمعاً بمزيد من الإفادة من الدولة السائبة بقرار وعن سابق تصور وتصميم،
لكن هذا الرئيس المطالب بالاستقالة فوراً يحاول أن يتحصن خلف المتراس الوحيد الذي يعرفه وهو “الطائفية”، بل يمكن القول، الآن، إنه “المذهبية”، إذ انتجت السياسة الكتائبية تحت قيادة أمين الجميل مذهبية حادة داخل المسيحيين، لشدة الأذى الذي ألحقه غلاة المتعصبين الموارنة بالأرثوذكس والكاثوليك والأرمن والسريان وسائر المذاهب.
وما بيان المطارنة الموارنة قبل أيام غير دليل فاقع على الآثار القاتلة للتقوقع الطائفي الذي لا بد أن يوصل إلى تقوقع مذهبي فيه الكثير من العرقية والعنصرية وعقدة شعب الله المختار الذي عرفناه في الصهيونية.
من هنا كان طبيعياً أن يثور لبناني صميم ورجل من أهل الحكمة كالكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، وأن يقرّع المطارنة على بيانهم سيء الذكر متهماً إياهم بالتزوير وبالعنصرية وباستعداء الناس جميعاً ضد الموارنة والصرع البطريركي في بكركي.
في ضوء هذه الوقائع جميعاً علينا أن نفهم المعركة المفتوحة ضد أمين الجميل، والتي فتحها هو وبنجاح باهر فوفر على خصومه جميعاً مشقة البحث عن بينات وحجج وقرائن وإثباتات لضرورة استمرارها حتى رحيله.
إنها معركة ضد حاكم “اعطي حكماً فلم يحسن سياسته”، فلا بد والحالة هذه من أن يخلعه…
إنها ضد الحاكم الجائر والظالم، وليست ضد المحكومين والمظلومين، مسيحيين ومسلمين، موارنة و”عناصر” أخرى…
إنها معركة ضد سليل لمؤسسة طائفية عاتية جلبت الويلات على لبنان كله، بطوائفه جميعاً، ولعل الموارنة بين أكثر المتضررين منها ومن الذين قفزوا على الحكم بخطيئة مميتة لا غفران لها: أي بالتواطؤ والتحالف مع العدوالوطني للبنان والعدو القومي لأمته.
إنها معركة ضد الطائفية والطائفيين، بقدر ما هي معركة ضد الحرب والمستفيدين من استمرارها والعاملين لإدامتها حتى لا يبقى لبنان أو لبناني.
إنها معركة من أجل الوطن، من أجل الحياة، من أجل الحق والخير والحب والجمال.
إنها معركة من أجل أن تبقى أرضنا منبتاً للورد الجوري والأقحوان والنرجس والقرنفل والبنفسج والأصالة والعزة ولا تتحول إلى صحراء قاحلة لا يعيش فيها إلا الشوك والغراب والبوم.
إنها معركة من أجل أطفالنا الذين يستحقون منا أن ننقذهم من خطر الاختناق في المستنقع الآسن قبل أن يتسنى لهم أن يعرفوا العطر والطيب وعبق النشوة بحب الحياة في وطن حقيقي من لحم ودم.