طلال سلمان

على الطريق دم عربي للمنتصرين في واشنطن

كان لا بد من إراقة دم عربي لكي تتأكد “تاريخية” الاتفلاق الإسرائيلي – الفلسطيني، ولكن المفاجأة أن بيروت كانت هي “الساحة” وليس بعض المدن في الأراضي العربية، داخل فلسطين أو خارجها، التي ما تزال في أسر الاحتلال الإسرائيلي.
وبدل أن تكون بيروت، كما كانت عبر تاريخها، الشارع الوطني العربي، أدى قصر النظر وضيق الصدر وتخوف السلطة السياسية من ممارسة الآخرين حق الاعتراض، إلى أن تنتهي التظاهرة اليتيمة التي كان مقدراً أن ترفع صوت الاحتجاج العربي إلى “مجزرة” حصد فيها الرصاص “الرسمي” ورصاص آخر اعتبر “مشبوهاً؟! ثمانية مواطنين وبضع عشرات من الجرحى!
ومع أن المحتشدين في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في واشنطن احتفالاً بالإنجاز التاريخي للغرب بالاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، كانوا في شغل شاغل عما وقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، إلا أنهم كانوا يتوقعون مثله بل “ويبشرون” بمثله!
وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر قالها صريحة: “سنضرب بشدة”، “ولا يمكن أن نسمح بالفشل مطلقا”.
ووزير خارجية إسرائيل شيمون بيريز اعتبر الاتفاق “ثورة” ودعا إلى بناء “الحلم الجديد على الأرض القديمة” من “اجل شرق جديد حافل بالأمل”.
أما “صغيرهم” وزير خارجية روسيا الاتحادية كوزيريف فقد كشف السر حين دعا حماة الاتفاق البائس لأن يشهروا سلاحهم لمواجهة “القوى المتعصبة والإرهابية والمتطرفة التي تهدد السلام”. محدداً بالدقة – وهو العائد من زيارة لأفغانستان قبل ثلاثة أيام – أن “الخطر الجديد” إنما يجيء من أفياء الإسلام والمتشددين في تطبيق سننه من المؤمنين بالدين الحنيف.
باهراً كان الاحتفال الذي أراده الرئيس الأميركي بيل كلينتون في مستوى “إنجازه التاريخي” بهذه المصالحة بين عدوين يفصل بينهما قرن من الدم والدمار والحرب وإنكار الآخر.
لكنه كان صريحاً إلى حد الغيلام بوثائقه الدقيقة ودلالاتها العميقة:
*كان الغرب كله هناك، صفاً واحداً، أما العرب فكانوا غائبين ومغيبين، برغم مشاركتهم الرمزية التي سرعان ما تحولت إلى شكلية وقربتهم كثيراً من موقع شاهد الزور.
* وكانت إسرائيل حاضرة بكل تاريخها الحربي وجنرالات انتصاراتها العسكرية التي أثمرت اليوم هذا النصر السياسي البين.
* فبعد اللهجة الأبوية لشيمون بيريز التي أكد فيها للفلسطينيين “إننا مخلصون” وتعهد بأن “لا نحاول أن نشكل حياتكم أو نتحكم بمصيركم، وسوف نقدم لكم مساعدتنا لكي تنعم غزة بالرفاهية وكذلك مدينة أريحا”، تحدث إسحق رابين كمحارب في الماضي ومحارب في المستقبل أيضاً – وبرغم “الصلح” من أجل القدس كعاصمة أبدية لشعب إسرائيل، مذ كراً “بحق الشعب اليهودي في المنفى”.
* أما الحضور الفلسطيني، وبرغم استثنائيته فلقد كان باهتاً، وبرغم أنه “نجم الحفلة” فقد تصرف كملتحق، وتحدث بلسانيه، ياسر عرفات ومحمود عباس، بلغة ركيكة، مبنى ومعنى، وجاءت طروحاته متهالكة ودونية.
* وكان مؤلماً أن يستذكر رابين وبيريز كل “ضحية” إسرائيلية ، وكل عذابات الهولوكوست، وأن ينسى “قائد الثورة الفلسطينية” سابقاً، شهداء أجيال النضال الذي سبق قيام الكيان الصهيوني بعقدين واستمر حتى اليوم مقدماً كل ساعة من دماء شبابه وأسباب حياته ما مكن ياسر عرفات من الوصول إلى البيت الأبيض في واشنطن لكي يوقع صلحه المنفرد مع عدوه السابق في هذا الجو الاحتفالي المهيب.
* وكان مفجعاً أن تسقط عروبة فلسطين وأهلها ومنطقتها سهواً، فلا تمر على لسان عرفات أو رجله السري “أبو مازن” فيغفل كلاهما ذكر الأمة التي احتضنت قضية فلسطين وثوراتها وقدمت لها ما لم تقدمه أمة أخرى لأغلى قضاياها وأقدسها…
* وفي حين ضمن كل من رابين وبيريز خطابيهما مقاطع من التوارة توكيداً لصلة وهمية وغير قائمة بين إسرائيل الماضي وإسرائيل الحاضر، فلقد هرب “القائدان” الفلسطينيان من توكيد الهوية القومية لفلسطين إلى عرضها على الغرب لكي يأخذها، فالتدويل بنموذج هونغ كونغ أو سنغافورة هو المطلب وباب النجاة من العرب الظالمين والمتخلفين!
* أما المصافحات فقد جاءت كبقية التنازلات مجانية ورخيصة،
وإذا كان يمكن لمحمود عباس أن يبرر “مبادرته” بأنها ليست المرة الأولى التي يصافح فيها هؤلاء الأعداء القدامى، ولعله صافح منهم أكثر مما صافح من إخوانه العرب، فإن تهافت ياسر عرفات لم يكن مقبولاً، خصوصاً وإنه لم يكتف بمصافحة واحدة بل أصر على ثانية لم يتوقعها أحد فظلت يده معلقة لحظات في الفضاء الأميركي قبل أن يمد إليه رابين يده متثاقلاً ، برماً بهذا الملحاح على ممارسة الصداقة قبل إتمام “صلح الشجعان” المنفرد!
*ولقد بلغ تهافت عرفات أعظم تجلياته بالكلمات البليغة التي أطلقتها زوجته سهى من تونس، مقدمة نفسها كسيدة غربية متحضرة ومحبة للسلام ومتشوقة إلى التكامل مع “الشعب الإسرائيلي”، بأي ثمن، مستذكرة علاقتها التاريخية بالزعيم الذي صار زوجها، مبررة بقاءها في “المقر المؤقت” بالقول: كان لا بد أن يبقى أحد هنا إلى جانب شعبنا!!
إنه الفصل الثاني من “عاصفة الصحراء”.
إنها واحدة من النتائج المنطقية لكل ذلك التاريخ من التراجعات والهزائم والانتكاسات والانحرافات التي تمت تغطيتها بانحرافات الآخرين، أو بابتداع المعاذير للفلسطيني من أجل التفرد بالقرار، ثم لومه على ممارسة التفرد!
وليس من قبيل السهو أن ياسر عرفات لم يستطع أن يرفع يده بإشارة النصر وهو يدخل مهجع أحلامه في البيت الأبيض الأميركي، وإنه بدلاً من ذلك اغتنمها مناسبة لتوجيه الشكر ثلاثاً إلى “سيدي الرئيس”، آملاً أن يفتح أخيراً الباب المرصود لعلاقات مباشرة بينهما، فهو قد اهتدى – أخيراً – إن طريق القدس تمر بواشنطن وليس بجونية في لبنان الذي تباهى بأنه قد حكمه بنجاح لبضع سنوات، وإنه بالتالي يستحق جائزة ترضية في غزة وأريحا.
إنه الفصل الثاني من “عاصفة الصحراء” وما بدأ بالمغامرةالحمقاء لصدام حسين في الخليج، وبلغ مداه بالحرب التي أودت بالعراق وأعادت الهيمنة الغربية المباشرة إلى الارض العربية في الجزيرة والخليج، يعطي بعض ثماره المرة اليوم ليس فقط في فلسطين، بل على المستوى العربي كله.
وكما في الفصل الأول استوطن الناس تلك العلبة السحرية ، التلفزيون، وتابعوا مذهولين وقائع الحرب عليهم، فلقد تسمروا أمس أمام الشاشات الصغيرة يتابعون مذهولين الاستسلام الذي قدم كنصر عبر التوقيع على ذلك الاتفاق بل النصر الغربي الخرافي على العرب في حاضرهم ومستقبلهم.
إنه الاجتياح بالأعلام.
فشبكة “السي. ان. ان” تغني عن الجيوش والأساطيل في هد معاقل “الخصوم” وتزيين الهزيمة للمهزوم ليتقبلها كرواية مسلية وجيدة الحبكة وبالألوان، وباعتبارها القدر الذي لا مفرمنه ولا فكاك.
في حديقة البيت الأبيض بواشنطن أمس كان ثمة منتصر أسطوري هو الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي حصد ثماراً لشجر زرعه غيره،
ولقد نجح الإسرائيلي في أن يقدم نفسه كشريك في النصر، أولاً بوصفه الممثل الشرعي والوحيد للغرب كله في الأرض العربية، وثانياً لأنه جاء إلى “السلام” بمنطق المحارب الواثق من قدرته على إلحاق الهزيمة بعدوه ولكنه “يصالح” لأن الصلح يضمن من المصالح ما لم تعد الحرب قادرة على توفيره.
ولعل من حق ياسر عرفات شخصياً أن يحصي مكاسبه فيجدها أكثر مما طلب أو تمنى، لكن العرب بمجموعهم كانوا يتجرعون هزيمة إضافية أمس، وهم يشهدون على الصلح المنفرد الثاني ، مع العدو القومي إياه الذي حاربهم لمدة قرن وأجبرهم بالنتيجة على أن يقاسموه أرضهم ويحكموه بمصيرهم.
والمهم أن يعرف العالم ما إذا كان هذا السلام المفروض قابلاً للحياة كنصر غربي، على مجموع العرب فوق أرضهم، أم أن المخاطر التي تتهدده سوف تقضي عليه قبل اكتمال تنفيذه؟!
ومثل هذا الاتفاق تحتاج حمايته لكثير من الدم، إما إسقاطه فيحتاج إلى المزيد والمزيد من الدماء،
ومنطقي السؤال عن دور الدم “اللبناني” الذي أريق أمس، وعن المتسبب في إراقته ربما لتوكيد استعداده للمشاركة في الحماية.
ومشكوك فيه أن تستمر الحاجة إلى أصحاب التواقيع بعدما وقعوا، بشهادة تجربة السادات، أو أن يتكفل هؤلاء العاجزون عن حماية أنفسهم، كما تدل واقعة اقتحام الديوان الملكي السعودي أمس، في حماية اتفاق بهذه الخطورة وبهذه الأهمية كنقطة بداية لتاريخ جديد ربما للعالم بأسره.

Exit mobile version