يوم السبت في الخامس عشر من كانون الثاني الماضي، كنا أربعة من الصحافيين اللبنانيين على طائرة الرئيس السوري حافظ الأسد، في الطريق إلى جنيف، حيث كان مقرراً أن يلتقي في اليوم التالي الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
وفي جنيف، وسع الرئيس الأسد إطار لفتته الخاصة تجاه الصحافة اللبنانية فأوصى خيراً بزملاء آخرين لكي يتمكنوا من حضور المؤتمر الصحافي العالمي الذي أعقب اللقاء الذي سيعتبره الجميع، في ما بعد، نقطة تحوّل في الموقف الأميركي، إزاء موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي في طوره الجديد: المفاوضات.
ولقد سمع الصحافيون اللبنانيون يومها من كبار معاوني الرئيس الأسد إشادة بالدور المتميز الذي لعبته وتلعبه الصحافة اللبنانية في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، بدءاً من المواجهة السياسية الصعبة، وذروتها المفاوضات من أجل سلام شبه مستحيل، وصولاً إلى دورها في تدعيم منطق المقاومة وفضح ممارسات العدو في الأرض المحتلة.
وفي مناسبات عديدة أخرى، تسنى لنا أن نسمع من القيادة السورية تنويهاً نعتز به بالدور القومي للصحافة اللبنانية، بمجملها، مع بعض الملاحظات حول “خروقات” محدودة تصدر هنا أو هناك ولكنها لا تؤثر على جوهر الدور ولا على حيويته.
ومع تقديرنا لكلام عمدة باريس جاك شيراك، وقد أدلى به وريث ديغول العظيم في منزل صديقه الرئيس رفيق الحريري في العاصمة الفرنسية، مؤكداً على الحريات الصحافية، فإننا نعتبر أن الصحافة اللبنانية تحمي وجودها بنجاحها في أداء رسالتها الوطنية ودورها القومي.
ومن باب أولى إننا نرفض أن يكون سمير جعجع هو “بطل الحريات”، وأن تتهم أجهزة الأعلام عموماً، والصحافة خصوصاً، بأنها وإياه في الموقع نفسه، أو أنه كان ضرورياً إسكاتها حتى لا تتبنى مواقفه، أو تروج لمنطق الفتنة الطائفية التي يحركها المخطط الإسرائيلي بأدوات تتحدر من صلب “القوات اللبنانية”.
إن سمير جعجع ، وبمعزل عن طموحاته السياسية وعن مدى مسؤوليته عن تفجير الكنيسة، هو أسوأ رمز لأسوأ الميليشيات التي نفذت أردأ المهمات في سياق الحرب الكريهة التي عصفت بلبنان على امتداد خمس عشرة سنة أو يزيد.
وقد كانت الصحافة بالذات بين أوائل الضحايا التي سفح “الأبطال الطائفيون” للحرب دمها، وغالباً لأنها قالت “لا للحرب، لا للطائفية، نعم للدولة..”.
ما زالت جراحنا على وجوهنا كما على مطابعنا ومكاتبنا وكلماتنا الناضحة بالألم.
لقد فقدنا حصانتنا ودورنا المناهض للحرب والطائفية والعدو مع إسقاط الدولة وتسلط الميليشيات: فطوردنا برصاص الاغتيال كما بالعبوات الناسفة، بالصواريخ الموجهة إلى بيوتنا كما بالسيارات المفخخة، وسورت المناطق بالحواجز فمنع دخول الصحف وصودرت وأحرقت نسخها على قارعة الطريق ولا نصير أو مجير.
وحين جاء أوان الحل كانت الصحافة في طليعة من دعا وروّج وعبأ ونور ورافع عن ضرورة الانخراط في مشروع السلم الأهلي و”جمهوريته العتيدة”.
وظلت الصحافة، بمجملها، داعية لوحدة لبنان وعروبته.. وبديهي أن الطائفيين والمتاجرين بالجثث يُحسبون على الطائفية المتوحشة وليس على الصحافة والرأي والفكرة والقلم الذي حاول أن ينتصر على السيف.
وبقدر ما صحح الجيش مسيرته وموقعة، هاجراً موقع “جيش الحاكم” ليصبح “جيش الشعب” وضمانة وحدته وحامي دولته، مرسخاً التزامه العقائدي بدوره القومي ومواجهة العدو الصهيوني، كانت الصحافة تواكبه وتساعد في حماية مسيرته من التشويش والتشويه.
حتى المختلف، لأسباب مبدئية، والمعترض على المفاوضات مع العدو، مثلاً، طوى تحفظه واندفع يخوضها حرباً جديدة، حماية للموقف العربي عموماً، والموقف الرسمي للدولة خصوصاً وقد وحدت موقفها مع الشقيقة سوريا بقيادة الرئيس – الضمانة حافظ الأسد.
ثم أن الصحافة كانت في طليعة المعارضين للفوضى التي سادت واستشرت في مجال الأعلام المرئي والمسموع، لاسيما وأنها المتضرر الأعظم منها.
ولطالما كتبنا وطالبنا بأن تستعيد الدولة الهواء حتى لا يظل مشاعاً لكل قادر ولكل مسيء، في ظل انعدام الإطار القانوني الناظم للحقوق والواجبات.
ولقد فتحنا صفحاتنا على مداها لمسودات المشاريع المتعددة، وللمناقشات والمجادلات والمماحكات التي لا نهاية لها والتي دارت حول القانون العتيد لتنظيم الإعلام المرئي والمسموع… وما زال ذلك القانون في ضمير الغيب بعد ثلاث حكومات وثلاث سنوات تقريباً من التهرّب “الرسمي” والمقصود.
فنحن، مرة أخرى، ضحايا المنافسة غير المشروعة، وغير العادلة، بل والمتعذرة مع أجهزة تقتحم غرف النوم وتملأ أوقات الناس وتسبقنا إلى الأحداث وتبهر صناع الأحداث فيفضلونها علينا لأنها الأوسع انتشاراً وتأثيراً وإقناعاً إذ تحمل صورهم الكريمة وأصواتهم الرنانة إلى جمهورهم العاشق.
لكننا نؤمن أن العلاج يكون بالقانون وليس بالمصادرة أو الإقفال أو الإسكات المؤقت والذي يخشى أن يطول،
ونؤمن أن إصلاح غلط الحكومة بالتأخير في إنجاز القانون واعتماده لا يتم بارتكاب غلطة أشنع، فالقمع لا يعوّض عن الإهمال، والتسكير لا يزين التقصير بل يحوّله إلى خطأ سياسي فاضح.
ثم أن معظم محطات الإعلام المسموع والمرئي مملوك من أصحاب القرار في الحكم والحكومة، فإذا كان مصنفاً كإعلام حرب فهم المسؤولون عنه وهم الذين يعاقبون لا الأداة.
وأخيراً وليس معقولاً أن يكون قد استصدر عفو خاص لعتاة القتلة والمجرمين ومنظمي المجازر الجماعية والخيانات الموصوفة، وبينهم جعجع وآخرون، ولا يبقى في قفص الاتهام إلا الصحافة.
فالصحافة قتيل لا قاتل، وحاميها قائد محترم يستحق أن يدخل التاريخ في حين يخرج منه ذلك الذي يحاول أن يدينها بأخطائه وخطايا أبطال الحرب والطائفيين وسائر العاملين لمصلحة العدو الإسرائيلي.
لقد وعدوا بحسم موضوع القانون غداً، الثلاثاء، بحيث تحيله الحكومة – أخيراً – على المجلس النيابي.
وغداً امتحان فاصل لهذه الحكومة ولكل ادعاءاتها سواء تلك المتصلة بحماية الحريات، بالقانون، أو تلك المتصلة بحماية الأعلام ليؤدي دوره في خدمة النظام الديموقراطي البرلماني، وهو منبره ورايته، وأيضاً بالقانون وبروح العدل وبالديموقراطية.
وإن غداً لناظره قريب..