متأخرة جاءت لحظة الحقيقة، لكن النظام العربي لم يعد قادراً على تجاهل مسألة خطيرة وحساسة كالديموقراطية، ولا هو بقادر بعد على تجاوزها أو القفز من فوقها.
سحبت من التداول القضايا الكبرى التي “تبرر” أو “تؤجل” مسألة الديموقراطية، كالوحدة، وتحرير فلسطين وبناء الاشتراكية، وترك الأمر لحكمة القائد التاريخي الملهم الذي يغني عن كل من وما عداه،
عاد الجمهور إلى الشارع، بهذه النسبة أو تلك، ومع اختلاف في الدرجة بين الملايين في الجزائر (مثلاً) والآلاف في الكويت.
وعاد “الشعب” القوي بوحدته، كما في فلسطين المحتلة، وقد اتخذ له سلاحاً من حجارة أرضه،
أما “الشعب” الممزقة وحدته، كما في لبنان، فقد انقسم إلى طوائف وفئات مقتتلة تفصل بينها خنادق من دمها على الضفتين،
وأما “الشعب” المنهك بمتاعبه الاقتصادية وبافتقاد القيادة السياسية القادرة والمؤهلة، كما في مصر، فقد نزل إلى الشارع أكثر من مرة ولكنه لم يكن يعرف إلى أين يقصد وممن يطلب وماذا على وجه التحديد يطلب من احتياجاته التي لا تنتهي،
المشترك في هذه الأمثلة العربية، وبرغم التباين، إنها جميعاً تؤكد حقيقة بسيطة: إن غياب الديموقراطية معضلة قومية، وإن هذا الغياب يستحضر بالضرورة حجماً من الهزائم لا يستحقه العرب، برغم تخلفهم وتفككهم وطبيعة القوى التي تتسلم مقاعد السلطة ومراكز القرار في ديارهم.
وبفضل غياب الديموقراطية ومؤسساتها في أربع رياح الأرض العربية يمكن للحاكم في الكويت، مثلاً، أن يتجرأ على مناضل عريق كالدكتور أحمد الخطيب، فيعتقله وهو مطمئن إلى أن أحداً لن يرفع صوته بالاحتجاج أو بالإدانة إلا بعض أقوياء الذاكرة أو بعض من يستوطنون البديهيات أو بعض هواة الشغب من بين فقراء الأرض العربية ممن لا شأن لهم ولا قوة تأثير.
ومؤكد إن الحاكم الكويتي قد استقوى بماله، واثقاً إن للذهب سحراً لا يقهر، وإن من سبق لهم أن حظوا ببعض عطاياه لن يفتحوا فمهم بكلمة اعتراض، وإن من يطمعون بأن يحظوا غداً ببعض هذه النعمة سيديرون وجوههم إلى الناحية الأخرى، حتى لا عين ترى ولا قلب يتوجع ولا ضمير يتعذب… وحتى يمكنهم القول إذا خاب فالهم بالكرم الكويتي: لو إننا عرفنا لكنا فعلنا ما لم يأته الأوائل!
في كل الحالات فإن تجرؤ السلطات في الكويت على اعتقال مناضلين وشخصيات وطنية تحاول أن تمارس، أو تطالب بالحد الأدنى من الديموقراطية، الدكتور أحمد الخطيب ورفاقه، تكشف عمق أزمة النظام العربي مع شعبه وعمق عدائه للديموقراطية والحريات العامة بالمطلق.
تماماً كما إن رفض النظام في مصر الترخيص للحزب العربي الاشتراكي (الناصري) يكشف كم إن الديموقراطية التي منحها بتراخيص رسمية لبعض الفئات المستهلكة، او بعض “بواقي” العهود الغابرة، هي واجهات شكلية تنقصها الروح والقدرة على التعبير عن جماهير الشعب العربي، في مصر وتطلعاته المشروعة.
وبالتجربة الحسية فإن “الأحزاب” – الواجهات لم تنفع النظام المصري كثيراً، ولم تحصنه ضد مخاطر”التمرد” الشعبي، بل هي كانت أول من سقط في اللحظات الأولى لأية مواجهة مع المعارضين أو المعترضين سواء أكانوا أصوليين أم متطرفين من أهل اليمين أو من أهل اليسار.
وليست بغير دلالة حالة العجز المطلق التي شلت “الحزب الوطني” الحاكم، والتي تضم سجلات العضوية فيه أسماء مئات الألوف وربما الملايين من المواطنين المصريين، في مواجهة حوادث الفتنة الطائفية المدبرة.
على الهامش، ومن باب التذكير، فإن المهندس يوسف والي، الأمين العام لهذا الحزب الوطني اللجب، وهو ابن الفيوم البار، قد امتنع أو أجبن فلم يقصد مسقط رأسه ولو في محاولة لمواجهة “عناصر الشغب” ممن دبروا ونفذوا الجرائم والتعديات ضد بعض أبناء هذه المدينة.
إن “الشعب” قد بقي، في الغالب الأعم، خارج نطاق الأحزاب الحاكمة، كما تدل تجربة الجزائر وجبهة التحرير الوطني فيها… أو إن هذه الأحزاب قد فقدت وهجها الشعبي وقدرتها على القيادة والتأثير حين تولت السلطة… أساساً بسبب نقص روح الديموقراطية أو نقص في الممارسة الديموقراطية لأسباب عديدة، ربما كانت خارجة عن إرادة هذه الأحزاب.
لقد نشأ في كل قطر عربي “حزب الحاكم”، وظل “الشعب” خارج هذا الحزب، وبغض النظر عن مدى ثقته بقدرة الحاكم وكفاءته،
حتى حيث لا أحزاب ولا مؤسسات شعبية فإن للحاكم “حزباً” من المنتفعين والمرتزقة والمنافقين يحرضونه ليس فقط على معارضيه بل على كل صاحب رأي أو اجتهاد ويصورون هؤلاء كمتآمرين يعملون ليل نهار لخلع نظام الحكم ووراثة صاحب السلطان فيه.
والدكتور أحمد الخطيب ليس قائد ثورة، وليس رافضاً للنظام القائم في الكويت، بل لعله هو ورفاقه قد تحملوا الكثير من الضير والتشكيك والاتهامات بسبب من تسليمهم بهذا النظام والخضوع لدستوره وأعرافه والقبول باعتماد وسائل الصراع السياسي (الديموقراطي) التي أقرها النظام نفسه، على محدوديتها.
قال النظام بالانتخابات فرشح الدكتور الخطيب نفسه ونجح مرة، وأسقط مرات، وظل على إيمانه بالديموقراطية سبيلاً لإلزام النظام بالديموقراطية،
حل النظام “ملجس الأمة”، وبرغم اعتراض الخطيب ورفاقه فلم يخرجوا على النظام شاهرين سيوفهم، بل عمدوا إلى أبسط الوسائل الديموقراطية وأكثرها مشروعية: عرائض الاعتراض اعتماداً على الدستور والقوانين النافذة، والتوجه إلى أهل النظام بالمناشدة وطلب الحوار وليس بالدعوة إلى الثورة أو حتى الإضراب والاعتصام وما إلى ذلك من أساليب… ديموقراطية هي الأخرى.
والاعتصام وما إلى ذلك من أساليب… ديموقراطية هي الأخرى.
كانوا، كمعارضين، أحرص على سلامة المجتمع الكويتي، ربما من أهل النظام أنفسهم،
وكانوا يحرصهم على التجربة الديموقراطية في الكويت أكرم على الكويت ونظامها من أهل هذا النظام،
فبماذا غير”الديموقراطية” ومنابرها (من مجلس الأمة إلى الصحف انتهاء بالديوانيات) كانت الكويت تباهي جيرانها وسائر العرب؟!
النفط ليس ميزة، لاسيما في جزيرة العرب والخليج، فالكل ولله الحمد سواء في هذه النعمة،
والانجازات المادية التي يصنعها الأجنبي بخبرته التي يبيعها غالية للنفطيين لا تصلح للمباهاة، ففي كل بلاد الدنيا بنايات عالية وأبراج وجسور وطرق دائرية ومحطات توليد كهرباء وتحلية لمياه البحر،
كانت مظاهر الديموقراطية مجسدة بالمعارض “الرسمية” والمنضبطة والمؤدبة (والبعض كان يراها مدجنة)، هي موضع فخار الحاكم الكويتي وعنوان مباحاته بالتجربة الفريدة والتي تؤهله لأن يصنف مع المجتمعات المتقدمة.
إن اعتقال أحمد الخطيب ورفاقه أكبر إساءة إلى الكويت (ونظامها) في تاريخها الحديث.
وكما إن غياب الديموقراطية في قطر عربي هو عذرأو مبرر لتغييبها في قطر عربي، آخر، فإن ادعاء الحرص عليها باعتماد وسائل القمع البوليسي لم يكن في أي يوم مقبولاً وهو اليوم بالذات حجة مردودة على أصحابها.
وإذا كانت بعض الأنظمة، تتذرع في الماضي بالقضايا القومية الكبرى لتحاول تبرير تضييقها على الأقطار التي تحكمها، فإن هذه الذرائع قد سقطت مع الهزيمة، ثم إن تلك الأنظمة ذاتها لم تعد تحاول استخدامها بعدما استهلكت.. إضافة إلى أن الكويت لم تخض حرباً ولم تحرر أرضاً محتلة ولا هي تستعد لذلك،
وفي كل الحالات فإن أحمد الخطيب هو أحد القلائل من أبناء الكويت ممن قاتل في الماضي وهو على استعداد اليوم لأن يفتدي بدمه الكويت وأية أرض عربية،
لقد ألحق غياب الديموقراطية بالعرب جميعاً، وفي مختلف أقطارهم، أبلغ الضرر وأشد الأذى.
فغياب الديموقراطية هو جعل النظام العربي معزولاً ويعيش حالة قطيعة مع الشعب، مهما تعاظم التصفيق للحاكم ومهما ابتذلت كلمات الأغاني التي تشيد بحكمته الخارقة وانتصاراته التي لا تنتهي،
وغياب الديموقراطية هو الذي أوصل العرب إلى حالتهم المستهجنة الراهنة: فالعرب يصارعون العروبة ويباهون بتخلصهم من القومية، في حين تندفع أقطار الدنيا جميعاً إلى أفياء القومية،
والعرب المسلمون، بأكثريتهم الساحقة، يفرض عليهم أن يخوضوا صراعاً مريراً مع حاملي لواء الإسلام، في حين يؤكد المسيحيون في العالم مسيحيتهم ويؤكد اليهود يهوديتهم بما يشبه الاستنفار الدولي ضد الإسلام (والأديان الأخرى).
في غياب الديموقراطية يقاتل العرب أنفسهم وتاريخهم ومعتقداتهم، ويخوضون معارك وهمية لا مبرر لها ولا ضرورة ولا نتائج غير تهشيم الذات وخسارة المكانة والمكان في تاريخ التقدم الإنساني،
.. هذا في حين تنتظرميادين المعركة الأصلية فرسانها فلا يجيء إلا قلة قليلة، ليس لأن الباقي لا يريدون وإنما لأنهم بأكثريتهم لا يقدرون، أو لأنهم لا يعرفون إن ثمة معركة غير التي يعمي غبارها بصرهم والبصيرة.
طبعاً سيكون من حق الحاكم الكويتي أن يرد على هذا الكلام كله بما معناه: قبل أن تعطونا دروساً في الديموقراطية أيها اللبنانيون عالجوا مقاتلكم وأوقفوا حربكم الأهلية التي جرتكم إليها ديموقراطيتكم الغراء!
والرد بسيط: لو كانت الديموقراطية التي مورست في لبنان سليمة، ولو عولجت أخطاء الممارسة بالمزيد من الديموقراطية، بدل أن يلجأ أعداء الديموقراطية إلى السلاح، وتحديداً إلى سلاح الطائفية القذلار، لما كان اللبنانيون في هذه الحال.
وأخشى ما يخشاه اللبنانيون الذين اكتووا بنار الحرب هو أن يصيب أخوانهم في الكويت أو في أي قطر عربي آخر بعض ما أصابهم من بلاء في لبنان،
ودفعاً لمثل هذا البلاء، لا قدر نكتب ونصرخ مطالبين بالحرص على الديموقراطية أو بتعزيزها أو باستيلاد مؤسساتها حتى تكون الضمانة والعاصم من ارتطام النظام بجمهوره الطبيعي وسقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
بجراحنا نكتب : الديموقراطية هي الضمانة، الديموقراطية هي الحل، هي الطريق إلى السلام الوطني وإلى النصر القومي المؤزر، وبكلمة : إلى الغد الأفضل.
وسلام على من أتبع الهدى.