طلال سلمان

على الطريق ديمقراطيات الصلح المنفرد

مرة أخرى، تتعرض المنطقة العربية لعملية “إعادة تأسيس” بقرار من خارجها، وإن تبرعت معظم أنظمتها وقياداتها لاعتماده وتبنيه والدفاع عنه وكأنه يعبر عن إرادتها الحرة!
إنها عملية تغيير جذرية تشمل كل شيء ما عدا الجلد، ومن ضمن هذا الجلد: السطان!
يستأصل التراث النضالي بعد إدانته بالقصور و”يزرع” مكانه “عقل واقعي” منفتح ومتفهم للتحولات في الاتجاه الأميركي الأوحد،
تنبذ المشاعر والعواطف والأحاسيس الرومانتيكية “البائدة” كمثل التعلق بالأرض والحرية والكرامة الوطنية والثقة بالنفس والأهلية والتخلص من الدونية، و”يزرع” مكانها جميعاً حس انتهازي مرهف يرتكز إلى ضرورة اقتناص “الفرصة الأخيرة” (؟؟) وإلا جرف طوفان “التطرف” و”الأصولية المتخلفة” كل شيء.
وفي هذا المجال لا بد من أن تؤخذ إسرائيل كنموذج للتقدم الديمقراطي وللعصرنة وتمسح عن وجهها كل ملامح التطرف والأصولية وهي الأعرق والأعظم تخلفاً (شكلاً وموضوعاً) بين عموم الأصوليات الرائجة أو المروج لها حالياً.
بذريعة الاقتصاد، وهو في هذا السياق مناقض للوطنية، لا بد من التحرر من الانغلاق الثقافي والاجتماعي واستطراداً السياسي،
ويصبح الهرب من حكم الفرد في الداخل إلى حكم الدولة – الفرد في الخارج تعبيراً عن الشوق إلى الديموقراطية!
ومع أن القمع واحد مهما تعددت أشكاله وأنماطه، فإن الاستجابة لمفاهيم العصر تقضي باعتبار القمع الخارجي والهيمنة الخارجية المطلقة على الإنسان والأرض والموارد نوعاً من أنواع الانتصار على الدكتاتور في الداخل واقتراباً من الأمنية العزيزة: حقوق الإنسان!
الطريف أن حكامنا يريدون منا أن نتقبل كل عمليات التغيير بالزرع هذه مع التسليم باستمرارهم قيمين ومشرفين ووكلاء محليين للسيد الجديد: أي أنهم يغيرون ولا يتغيرون!
أي أن رموز القمع والتخلف وتعذر اللحاق بالعصر وغياب الديموقراطية وانعدام حقوق الإنسان يتحولون بقدرة الأميركي القادر وسحر الإسرائيلي الساحر إلى رموز عربية للنظام العالمي الجديد!
وهم يستطيعون “إنجاز” مثل هذه المهمة التاريخية لأنهم حطموا مجتمعاتهم ودمروا المؤسسات الشعبية التي كانت قائمة فيها (الأحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات المهنية وصولاً إلى الروابط الطلابية..)
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
ما كان صدام حسين ليستطيع أن يقدم على شن حربين خطا خلال عقد واحد من الزمان، انتهتا بتدمير العراق وتصديع وحدة أمته (أو تضامنها) وهدر إمكاناتها ودماء أبنائها، لو كان في العراق أحزاب وتنظيمات وهيئات تمثل حقيقة مصالح شعبه وطموحاته.
وطبيعي أن أول حزب كان لا بد من أن يدمره صدام حسين هو الحزب الذي وصل إلى السلطة باسمه وتحت رايته: البعث.
كذلك فلو أن “الحزب الوطني” في مصر، الذي ابتدعه السادات كوريث للحزب الآخر المبتدع قبله بقرار جمهوري “الاتحاد الاشتراكي”، كان تنظيماً شعبياً حقيقياً يعبر عن مصالح قوى اجتماعية محددة، لما كان النظام المصري مضطراً لأن يواجه التيارات القائلة بالتغيير ببنادق الشرطة ومدافع الأمن المركزي،
وبالمقابل، فلو أن هذا الحزب حزب لما كانت إعادة انتخاب الرئيس لولاية جديدة تتخذ هذا الشكل الكاريكاتوري: فيمنع أي مواطن من أن يرشح نفسه كما يمنع من أن يصوت بلا أو يمتنع عن التصويت، ويحتسب صوته حتى لو امتنع ليجيء الرئيس مختزلاً الشعب كله مائة في المائة!
ولو أن حركة “فتح” ما تزال تنظيماً شعبياً جدياً لما أمكن لياسر عرفات أن يذهب في رحلة الصلح المنفرد إلى مداها.
كذلك فلو أن سائر التنظيمات الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير ما تزال تمثل مصالح قطاعات أساسية أو فئات اجتماعية ذات شأن، لما كانت المنظمة قد تحولت إلى نظام عربي، آخر، بل وإلى أردأ نظام عربي كون محاسبتها مستحيلة للتعذر إذ لا أرض ولا مؤسسات ثابتة ولا قوى عسكرية متمركزة يمكن أن تشكل الاحتمال الأخير بالانقلاب طالما يتعذر التغيير الديمقراطي،
وإذا كان الحكام العرب يمارسون تفردهم بالسلطة عبر “مؤسسات” و”أجهزة” يصطنعون لها قيادات تدين لهم بالولاء المطلق، فإن رئيس منظمة التحرير يستطيع التحكم بالجميع من خلال تحكمه بالقرار المالي، فهو الخزنة وأمين الخزنة، وهو الآمر بالقبض والآمر بالدفع وهو المحاسب والصراف، ولا قرش ينفق بغير إذنه!
إن ثمة سلاطين يفرضون على رعاياهم الطاعة بقوة السلاح أو بدهاليز المخابرات والمعتقلات و”العزل السياسي”.
وثمة من يفرض الطاعة بقوة الدينار حين لا يكون ثمة مصدر للدخل إلاه..
الطريف أن هؤلاء جميعاً يحتكرون القرار السياسي ثم يلومون الشعب على عدم المشاركة ويؤاخذونه على سلبيته، فإذا ما طالبت نخبه – مثلاً – بمجلس للشورى، كما في السعودية، اعتقلت بذريعة أنها تدعو إلى الفتنة وتهدد الوحدة الوطنية وتشوه مفاهيم الشريعة السمحاء،
والأطرف، في مثل حالة اتفاق غزة – أريحا، أن يصور هذا التفريط وكأنه مطلب شعبي، وأن توفى كل شكليات النقاش (الفارغ) في مؤسسات عاجزة ومشلولة ولا تملك أية فاعلية ولا دور لها في “السلطة”، ومن ثم تتم عمليات “تصويت” فإذا “الأكثرية” قد أقرت ووافقت وباركت… في حمى الديمقراطية!
والمفارقة مؤلمة: إن تلخص الوطنية بقمع الحاكم الفرد الذي لا بديل له لأنه أقدس من الشعب وأعظم فهما وعبقرية، وأن يلخص التفريط بديمقراطية الحاكم الفرد المزين نظامه بمجموعة من المؤسسات – النقوش!
وهكذا يضاف إلى “مزايا” العدو ومصادر قوته “حيوية مجتمعه الديمقراطي”، فنسعى إلى الديمقراطية عنده كان التحاقنا به، أو استسلامنا له، سيوصلنا إليها وسيجعلنا أخيراً نتمتع بهذه النعمة التي طالما تفرجنا عليها وسمعنا بها ولكننا لم نمارسها أبداًز
يغدو “العدو” قريباً ومحبباً إلينا لشدة كراهيتنا أو خوفنا من حاكمنا الفرد، ونكاد نرى في الاستسلام منفذاً إلى التغيير المرتجى ومخرج نجاة إلى الديمقراطية المحظورة!
إن معظم “دولنا” يعاد تأسيسها الآن وفقاً لأحكام النظام العالمي الجديد، ونحن خارجها كالعادة: من الجزائر المفتوحة على مخاطر الحرب الأهلية، إلى العراق المدمر بالدكتاتورية الممهدة لعاصفة الصحراء الأميكيةن إلى مصر المهيضة الجناح بالقيد الإسرائيلي في يديها وعلى روحها، إلى هذا الكيان المسخ الجديد الذي يستنبت كأية مستوطنة هجين فوق الأرض الفلسطينية، إلى لبنان الذي تتعثر جمهوريته الثانية بين دهاليز خطة النهوض الاقتصادي واتفاق السلام الإسرائيلي، إلى الأردن الذي يكاد يتشطر بين أحلام الملوك وملوك الأحلام، إلى السودان وليبيا وصومال فرح عيديد…
وأغرب ما في هذا التبدل، أو إعادة التأسيس، أنه يتم تحت شعارات النظام العالمي الجديد ومنها: حقوق الإنسان والتعددية السياسية واقتصاديات السوق والديمقراطية..
أي إن ما كان مشاريع أوطان أو دول من دون ديمقراطية يتهاوى الآن أمام ضغط رياح التغيير الأميركية مخلياً الطريق أمام المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، وأيضاً من دون ديمقراطية!
… والضغوط تزداد من أجل تعزيز الديمقراطية الإسرائيلية بالمزيد من اتفاقات الصلح المنفرد العربية!
ومع ذلك فلن نصدق أبداً أن الديمقراطية إنتاج إسرائيلي وحرام علينان تعاطيه أو التعامل به أو إنها إحدى مزايا شعب الله المختار!

Exit mobile version