طلال سلمان

على الطريق دي كويار ودوره الإنساني ووظيفة الشرعية الدولية في التسعينات!

لا ينقص من قدر الأمين العام للأمم المتحدة أن “يغطس” شخصياً في مسِألة تفصيلية كالرهائن، موفراً للأطراف المعنية جميعاً المخرج اللائق للانتهاء من هذا “الإنجاز” الذي تحول إلى “ورطة”، أو السلاح الذي ارتد على حامله.
ولا يعيب الأمم المتحدة أن تهتم بحياة الأفراد إلى جانب اهتمامها بمصائر الشعوب، وأن تلعب – بشخص أمينها العام – دور “المحلل” أو الوسيط الشرعي بين متخاصمين ليس بينهم علاقات تمكنهم من الاتصال والتفاوض المباشر.
على إن هذا الدور المحدود، على أهمية طابعه الإنساني، الذي يلعبه الأمين العام، يستدعي على الفور بعض المقارنات التي تجسم مدى التراجع في دور الأمم المتحدة، كمؤسسة معنية بقضايا الإنسان جميعاً (كالحرب والسلام) وعنصر توازن في العلاقات الدولية.
ولا يحتاج الأمر إلى غرق في الأرشيف والمحفوظات المتراكمة لكي يمكن تحديد ثلاث مراحل في عمر هذه المنظمة الدولية التي قامت غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية لتكريس انتصار المنتصرين وهزيمة المهزومين، ولضبط إيقاع العلاقات بين القوى العظمى التي جمعتها ضرورات الحرب وكان لا بد أن يفرقها اقتسام الغنائم والمنافسات التي سرعان ما تحولت إلى صراع مكشوف بين “المنتصرين” إياهم.
*المرحلة الأولى: لم تعمر أكثر من بضع سنوات (أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات) وانتهت عملياً بنجاح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين في توظيف الأمم المتحدة لصالحها في حرب كوريا ضد “الحلفاء السابقين” من “دول الستار الحديدي” بزعامة الاتحاد السوفياتي ومحازبيه الشيوعيين في كل مكان.
*المرحلة الثانية: امتدت منذ أواسط الخمسينات وحتى نهاية السبعينات وشهدت انتعاشاً مميزاً للأمم المتحدة التي كان احتشد فيها عشرات من الدول الفقيرة الخارجة من أسر الاستعمار الغربي، وهي دول كانت تبحث عن مكانة وعن دور يمكنانها من استعادة اعتبارها وكرامتها وقد وجدت في منظمة دول عدم الانحياز الإطار المناسب للتكتل كقوة ضغط داخل الأمم المتحدة على القوى الكبرى، والغرب بالقيادة الأميركية – الجديدة – تحديداً، وكان طبيعياً في ظل هذا الخلل في التوازن أن تنظر الولايات المتحدة إلى المنظمة الدولية وكأنها صارت أداة في يد المعسكر – الخصم (الاتحاد السوفياتي ومن معه)، خصوصاً وإن هذا الخصم كان في موقع الحليف الكبير للصغار المنضوين تحت لواء عدم الانحياز، بما هو خروج من هيمنة الغرب أساساً.
*المرحلة الثالثة: وقد امتدت منذ نهاية السبعينات حتى نهاية الثمانينات وقد تميزت بشلل المنظمة الدولية وتهالكها تحت وطأة الضغط الأميركي (الغربي). ولم تنكر واشنطن، آنذاك، ضيقها بمنظمة الفقراء والصعاليك والمتخلفين هؤلاء، وعمدت إلى تأديبها كمنظمة، فمنعت عنها المال والدعم السياسي، في حين كانت تواصل تأديب الخارجين على الطوق، مستفيدة من تناقص تأثير الاتحاد السوفياتي وبدايات انهيار المعسكر الشيوعي وتحالفاته وصداقاته في العالم الثالث.
ومع مغامرة الغزو العراقي للكويت جاءت اللحظة الحاسمة لإعلان واشنطن عن عودة المنظمة الدولية إلى بيت الطاعة الأميركي، بما فيها الآن الاتحاد السوفياتي نفسه، وهكذا اندفعت تستصدر القرارات من مجلس الأمن الدولي بصورة آلية في غياب أي “فيتو”، لتخلص إلى تمويه حربها في الخليج وتقديمها وكأنها تحقيق للإرادة الدولية وتنفيذ لقرارات الشرعية الدولية وليس لتأمين المصالح الأميركية في حاضر المنطقة العربية ومستقبلها، وربما على امتداد العالم.
وباختصار فإن واشنطن لم تترك الوقت يذهب هباء… وهي منذ سنة على الأقل، تستخدم خاتم الأمم المتحدة لإلغاء (عملي) لمعظم القرارات التي صدرت أيام هيمنة الفقراء المتشجعين بحشدهم اللجب والمتلطين وراء الاتحاد السوفياتي ومعسكره الراحل.
وليس من المصادفات إن الأمين العام دي كويار لا يخطو خطوة بغير تنسيق أو ربما طلب مباشر من واشنطن، وفور الانتهاء من أي مهمة يقوم بها تكون الإدارة الأميركية أول طرف يستمع إلى تقريره ومقترحاته، فما تقبله يقبل وما ترفضه يهمل وينسى تماماً.
بين التداعيات أن يستذكر العرب خلاصة أسلاف دي كويار الذين احتلوا في لحظات معينة مواقع مماثلة لأصدقائهم الكبار، أو حتى لبعض “زعاماتهم”،
ولأن الأمم المتحدة كانت، منذ قيامها، ملجأ العرب الخارجين إلى دنيا الاستقلال بلا حول ولا قوة (شأنهم شأن كل دول العالم الثالث) فقد عرفوا وألفوا وتعاطفوا بل وتحزبوا لبعض أمنائها العامين وموفديها إلى المنطقة في سياق… الجهد من أجل تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، الذي صار يعرف في ما بعد باسم “أزمة الشرق الأوسط”.
ولقد استخدمت إسرائيل مع الأمم المتحدة أيضاً لغة القوة التي تتقنها جيداً، وهكذا اغتالت الوسيط الذي أوفدته المنظمة الدولية الكونت برنادوت ليكون عبرة لمن يعتبر… وقد اعتبر الجميع بعده، فأوقفوا تحركهم، دائماً، عند حدود معينة يمكن تلخيصها بالمفارقة الآتية: مع التسليم بالحق الفلسطيني فإن قوة الأمر الواقع الإسرائيلي تفرض منطقها، في انتظار أن يعدل أصحاب الشأن (العرب) الميزان المكسور.
… فالأقوى يمكنه حتى اغتيال “الشرعية الدولية” إذا لم تقر احتلاله أو توسعه، أما إذا سعت في ركابه – كما في درس حرب الخليج – فإن الأقوى يجير لها بعض قوته لتوفر له الغطاء المعنوي الضروري لتحقيق أغراضه ومصالحه… شرعياً!
وتحفظ الذاكرة الفلسطينية خاصة والعربية عموماً أسماء من شغلوا الأمانة العامة وتعاقبوا منذ 1945 وحتى آلت إلى دي كويار، فتريغفلي كان الشاهد على الولادة وقرار التقسيم، وهامرشولد استطاع أن يعطي للأمم المتحدة دوراً فاعلاً جداً من خلال فهمه لطبيعة التحولات التي شهدها العالم نتيجة لانفجار حركات التحرر في أربع رياح الأرض، وكاد العرب يمنحونه “هوية شرف” لاقتناعهم بنزاهته في معالجة الصراع الشائك والمتعدد الجوانب مع عدوهم الإسرائيلي، وكذلك الرجل الآسيوي الصغير والهادئ يوثانت. أما فالدهايم فقد صنفته إسرائيل خصماً ونبشت له من “الأرشيف النازي” ما كادت تمنع به وصوله إلى سدة الرئاسة في بلاده النمساوية الجميلة.
ويمكن لكل من هؤلاء الرجال أن يقولوا: لقد حاولنا فلم نقدر،
أما دي كويار فلم يمكنه توازن القوى بين العرب وإسرائيل حتى من مجرد المحاولة، هذا من قبل أن ينظر إلى تاثير التحولات الهائلة التي شهدها العالم في الاتجاه المضاد لأماني الشعوب وحقها في الحياة والحرية والتقدم، منذ منتصف السبعينات وحتى اليوم،
وبين الانهماك في معالجة قضية دولية خطيرة كالصراع العربي – الإسرائيلي على أرض فلسطين وما جاورها من أقطار عربية، إلى التفرغ لحسم مسألة بضعة من الرهائن الغربيين المحتجزين لدى بعض التنظيمات المتطرفة في دول وأنحاء محتجزة بكليتها ومرتهنة إرادتها وثرواتها ومستقبلها وربما وجودها…
هكذا تقلص دور الأمم المتحدة “العربي”ن
لم تعد حتى وسيطاً، أو طرفاً أساسياً معنياً بهذا الصراع الذي اتخذ بعده السياسي المباشر بإعلان المنظمة الدولية بقيام إسرائيل على بعض الأرض الفلسطينية، مع وعد أو توصية أو قرار مؤجل التنفيذ بقيام “دولة عربية” على ما تبقى من تلك الأرض،
إنها بالكاد وسيط مقبول ومؤهل للسعي لإطلاق سراح بضعة الرهائن الغربيين مقابل مئات من المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل أو في بعض دول أوروباز
ومع التمنيات بأن ينجح صاحب المنصب الخطير في هذه المهمة الإنسانية النبيلة والمحدودة، فلا يبقى محتجز أو مخطوف رهينة لدى أي طرف أو متطرف سواء أكان تنظيماً أم دولة.
ومع التمنيات بأن يكون قد بقي للأمم المتحدة أي دور، ولشرعيتها الدولية أية فائدة غير تمويه المصالح الأميركية وإسباغ ثوب هذه الشرعية عليها،
… فإن جملة من قضايا الشعوب في العالم، وفي الطليعة منها فلسطين، سوف تنتظر طويلاً قيام منظمة دولية تعنى بشؤون الشعوب ومصائرها وتحسم قضايا النزاع والصراع في العالم بما يحقق الحد الأدنى من العدالة.
وأخطر حسارة منيت بها الشعوب أن ختم هذه الشرعية صار في حوزة وزارة الخارجية الأميركية، وإن دورها اختزل في ما يشابه الصليب الأحمر أو الاطفائية التي تخدم الأقدر على دفع تكاليف انتقالها من أجل الإنقاذ!

Exit mobile version