في نيسان 1968 خرج لبنان كله، في تظاهرة قل نظيرها. للمشاركة في تشييع جثمان خليل الجمل، وهو فتى بيروتي كان قد التحق مع “فتح” واستشهد في حادث تدريب عادي في إحدى قواعدها في الأردن: وصل النعش بيروت محمولاً على الأكف، كل قرية أو مدينة مر بها حملت النعش حتى حدود القرية الآخرى. وكانت مشاركة بلدة الكحالة ملفتة تماماً، إذ أقفلت الدكاكين، وقرعت الأجراس حزناً، ورش النعش بالزهر والأرز والعطر.
وفي آب 1982 خرجت قيادة المقاومة الفلسطينية من لبنان، بحراً إلى اليونان ومنها إلى تونس، وسط تظاهرة وداع نادرة المثال احتشد فيها المسلمون باكين هزيمة العرب الجديدة، ولم يشارك من المسيحيين إلا من اقتضاهم المنصب الرسمي واجب المشاركة.
ووجد من يقول إن المقاومة الفلسطينية دخلت لبنان من بابه العريض، بوصفها إحدى طلائع الثورة العربية، الوحدوية والتحريرية، بالضرورة، وخرجت من باب جانبي ونتيجة لخسارتها الطابع القومي المفترض فيهاز وهكذا لم يتبق لها غير تعاطف المسلمين، ولأسباب تتصل بالقضية أكثر مما تتصل برموز القيادة السياسية للعمل الوطني الفلسطيني في المرحلة الراهنة.
بل وجد من يقول، متهكماً، إن ياسر عرفات لم يصعد إلى السفينة إلا بعد أن اطمأن إلى أن “لبنان الوطني” قد سبقه إلى الرحيل، فلم يتبق منه بعده إلا مثلما تبقى من قضيته ذاتها أي : الذكريات!
ذلك إن لبنان قد استقبل المقاومة الفلسطينية، فاتحاً القلب والذراعين وأبواب المدن والقرى والبيوت جميعاًن بقوة الحركة القومية، وقيادة الأمة معقودة اللواء لفارس الثورة الوحدوية في العصر الحديث، جمال عبد الناصر، كما بقوة الوطنية ورسوخ الانتماء القومي في نفوس أبنائه جميعاً، من مسلمين ومسيحيين، دون أن نلغي من الحساب قوى الانعزال فيه، والتي تشمل هي الأخرى مسلمين ومسيحيين!
وكان ضرورياً الانتظار بعض الوقت ليتأكد بقوة الواقع المعنى الرمزي للدخول والخروج:
فلقد كان “اتفاق القاهرة – قاهرة عبد الناصر والحركة القومية – هو باب الدخول الرسمي للكفاح المسلح الفلسطيني إلى لبنان، مستنداً إلى تأييد شعب لبنان بقواه السياسية الفاعلة وجماهيره الواسعة المتصدية بصدور شبابها لرصاص المعترضين داخل الدولة وخارجها، كما أثبتت الأحداث التي توالت بين تظاهرة 23 نيسان (1969) الشهيرة، وبين عقد الاتفاق في القاهرة وبرعاية جمال عبد الناصر شخصياً في تشرين الأول من العام نفسه.
وبالقدر نفسه فغإن “اتفاق عمان” الذيأعقب رحيل المقاومة الفلسطينية عن لبنان جاء بمثابة إعلان رسمي عن انتهاء عصر الكفاح المسلح كطريق لتحرير الارض المحتلة،
كانت القاهرة ، بقياة عبد الناصر، “باب الدخول” والعمل الوطني في لبنان هو الحاضنة و”البحر” ، وكانت عمان الملك حسين هي “باب الخروج” النهائي من الثورة ومن العمل المسلح، والمضي قدماً في تلك المقامرة البائسة من أجل الوصول إلى القدس عبر واشنطن هذه المرة..
وليس مما يبهج على أي حال أن يستعرض المرء نماذج الباقين على ولائهم أو تأييدهم لقيادة ياسر عرفات، من اللبنانيين، خصوصاً إذا ما تذكرنا إن الرجل “حكم” بعض لبنان – أكثرية شعبه وأرضه، على أي حال – لمدة تناهز السبع سنوات، وأن يقارن كم يكلف هذا “التأييد” عرفات، وكم يكلفنا نحن في لبنان، بمن فينا بضع مئات الألوف من أخوتنا الفلسطينيين المقيمين بين ظهرانينا منذ إقامة إسرائيل على أرضهم.
بتعبير آخر: فإن عرفات الذي دخل لبنان باسم كل العرب وبموافقة وتأييد واحتضان أكثرية اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم، محاطاً بهالة تقدير يستمدها من قداسة قضيته، فقد خرج منه وليس معه من العرب إلابعض أنظمتهم التي لم تشتهر بعدائها لإسرائيل ولا بمعارضة – ولو مؤدبة – للسياسة الأميركية ،ومن اللبنانيين إلا من ارتبط معه عملياً، مباشرة أو عبر تلك “المؤسسات” الفلسطينية واللبنانية التي كانت تفرخ بمعدل واحدة كل ساعة.
هذا مع استثناء أكيد لكل الذين ما زالوا على ولائهم للقضية المقدسة ولشعار الكفاح المسلح كأداة للتحرير، والذين شيعوا المقاتلين الفلسطينيين تشييعهم لأغلى آمال جيل أو جيلين من العرب، في لبنان وخارجه، وحفظوا للقيادة الرسمية كرامة الرمز فقدموها على مواقفهم السياسية منها.
برغم هذا، أو ربما بسبب هذا، لم يجد ياسر عرفات ما يقوله في وداع بيروت التي تحملت الحصار بشجاعة قل نظيرها، واحتضنه أهلها كما احتضنوا “القضية” حتى يومه الأخير فيه، غير تحميلها وزر انسحابه، حين قال ما مفاده أنه يخرج بناء لطلب المسلمين (وليس كنتيجة للاتفاق المعلن مع فيليب حبيب)!!
ليس همنا نبش الذكريات المؤلمة ولا التشهير بشخص ياسر عرفات أو أسلوبه في التعامل مع لبنان وبيروت التي تحولت على امتدات سنوات إلى عاصمة “للدولة الفلسطينية”، وهذا من مفاخرها القومية على أي حال، وإن كان “أبو أياد” قد رأى صورة أخرىفقال ما معناه: “نعم، لقد اختطفنا بيروت، واحتفظنا بأهلها رهائن، كما في حالة الطائرات المخطوفة، وذلك من أجل الضغط على الرأي العام العالمي، والغرب أساساً بقيادة أميركا لعلهم يقدمون لنا شيئاً تفيد منه قضية شعبنا”…
ما يعنينا هو انعكاس ذلك الماضي، الذي ترفض بعض القيادات الفلسطينية، وليس عرفات وحده، أن نطوي صفحته، على الحاضر ثم على مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان، وعلى مجمل العلاقات بين الشعبين اللذين امتزجت دماؤهما وأحلامهما وطموحاتهما في الخندق الواحد على امتداد 15 سنة صعبة وحافلة وغنية بدروسها والتجارب.
وهذا الوجود مهدد الآن، وسيظل مهدداً ما لم تتبدل مرتكزاته العامة، في ضوءما طرأ من تحولات على مسيرة القيادة الرسمية لمنظمة التحرير (ممثلة بعرفات ومن معه)، أولاً، ثم على ما طرأ من تبدلات وتغييرات سياسية على “الساحة اللبنانية” عامة، والجنوب أساساً وبالتبعية بيروت الغربية وضواحيها، خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي، ثم عشية الانسحاب الذي لم يكتمل، كل ذلك في ضوء معطيات الوضع العربي الراهن الذي غادر الثورة والوحدة والتحرير منذ أمد طويل.
وبغير ما رغبة في العودة إلى تفاصيل “حرب الأشقاء” في المخيمات ومن حولها، أسبابها والمسؤوليات، من بدأها ولماذا وكيف وأين، فمن الضروري أخذ دلالاتها بالحسبان ونحن نتعرض لموضوع الوجود الفلسطيني ومرتكزاته – السياسية والقانونية والشعبية – في المستقبل ، خصوصاً وإن “اتفاق دمشق” الذي أنهى الاشتباك المسلح قد حقق تعطيل “الصاعق” ولم يلغ أسباب أو إمكانات التفجير،
*أولى الحقائق التي يجب أن تستقر في الوجدان الفلسطيني، متصلة بلبنان وأهله، إن الوجود الفلسطيني هو الأساس، وهو ما يجب المحافظة عليه والاهتمام به.
إن في لبنان أكثر من ثلاثماية ألف إنسان فلسطيني، يعيشون ويعملون فيه، ويجب أن يتوفر المناخ الصحي لبقائهم واستمرار علاقاتهم الحميمة والطبيعية مع المحيط اللبناني. وكذلك استمرار فرص الحياة الكريمة، إن في ما خص العمل أو التنقل أو السفر أو التنظيم شؤون حياتهم والأهم: تنظيم بقائهم فلسطينيين أكرهوا على الخروج من أرضهم ذات يوم، ومن حقهم أن يظلوا يحملون ويعملون – بالوسائل المتاحة – للعودة إليها.
*يتصل بهذه الحقيقة مباشرة إن الوجود الفلسطيني في لبنان أهم، بما لا يقاس، من السلاح الفلسطيني، خصوصاً وإن هذا السلاح فقد وهجه الثوري المميز، وفقد الكثير من مبررات حشده وحمله في ضوء الحقائق القاسية للاجتياح الإسرائيلي صيف 1982.
وبصراحة: فإن هذا السلاح خسر قضيته في الجنون، تحديداً، وحتى من قبل أن تبدأ “عملية الجليل” التي “احترمت” القيادة الرسمية لمنظمة التحرير حدودها (40 – 45 كلم) فبادرت ومنذ الطلقة الأولى إلى سحب قياداتها العسكرية المسؤولة عن أهل الجنوب (بمن فيهم أبناء المخيمات العديدة الموزعة بين صيدا وصور وعلى الطريق بينهما) وكذا عن البقية الباقية من “القوات” التي كانت كتلتها الأساسية قد انتقلت قبل ذلك إلى بيروت لتحتشد في جيش “الـ 17″ الشهير بآلياتها ومدفعيتها و”قوتها الضاربة” أو لتنضوي تحت لواء الشرطة العسكرية، أو في الحرس الجمهوري الذي كان يوفر لعرفات كل مظاهر “الرئيس” بما في ذلك “طابور الشرف” خصوصاً لكبار الزوار من الرسميين!
وبصراحة أيضاً: فإن هذا السلاح كان يخسر من مبررات وجوده، يومياً، وبخط مواز لاندفاع القيادة الرسمية للمنظمة في طريق البحث عن “حل” أو “تسوية” برعاية الأميركيين وعن طريقهم، بوصفهم يملكون أوراق اللعبة!
بالطبع يمكن لهذه القيادة أن تبرر مسلكها بـ “الزمن العربي الرديء” وبتزايد المصاعب أمام الكفاح المسلح في الداخل، وبالصفقات والمساومات التي كان يتبارى في عقدها أو في السعي إليها العديد من الأنظمة العربية، وصولاً إلى “رحلة العار”، رحلة السادات إلى القدس المحتلة (في خريف 1977) ومن بعدها اتفاقات كامب ديفيد وملحقاتها الخ.
ويمكن لهذه القيادة أن تبرر بترداد ما كانت تردده في بيروت “- إذا كان الأمر أمر بيع وشراء، فهذه قضيتنا ونحن أولى، ولن نترك العرب يبيعوننا مرة أخرى…”.
على إن ما لا يمكن قبوله اليوم، في لبنان، هو أن يطلب الذين تخلوا عن اعتماد السلاح والكفاح المسلح من اللبنانيين أن يستمروا في قبول الفلسطينيين مسلحين، “لأسباب تكتيكية” تتصل بتحسين شروط التفاوض مع العدو!
إن الثائر أو الفدائي الفلسطيني الذاهب إلى الشهادة فوق تراب فلسطين له حقوق على كل عرب “القشرة” أو “الحدود” مع الأرض المحتلة، بمن في ذلك اللبنانيون، أما الذاهب إلى المفاوضات والتسويات و”الصلح” بهذه الصيغة أو تلك، فليس له شيء من حقوق المحارب، هذا إذا لم يصبح هو هدف الحرب… فكيف إذا كان سلاحه في بيروت مقطوع الصلة بالثورة والتحرير، ودوره الوحيد أن يذكر بوجود “القيادة” وقدرتها على الحركة والتأثير على الأحداث ولو بالتخريب؟!
*ثالث الحقائق: إن هذه التحولات التي طرأت على حركة المقاومة الفلسطينية، ممثلة بقيادتها الرسمية دائماً، قد أسقطت عصر التميز الذي استحقه الفلسطيني بفدائيته وقتاله ضد العدو الإسرائيلي،وكان الاجتياح ، ثم خروج المقاومة من بيروت وضمن الشروط والظروف التي حكمت خروجها، نقطة النهاية في عصر الامتياز والتميز الذي امتد لسنوات.
والواقع إن المواطن اللبناني كان قد منح الفلسطيني هذا الامتياز أو الموقع الممتاز” ، طوعاً، وباعتباره فدائياً ورمزاً للثورة العربية، ومحرراً للمحتل من الأرض، وليس لمجرد أنه يتحرد من أبوين فلسطينيين.
لكن العقل الكياني، أو القطري أو الإقليمي للقيادة الرسمية لمنظمة التحرير، كان محكوماً يحول سياسي خطير، فهو لم يكن قومياً في أي يوم، بل إنه كان معادياً للقومية، ووضع “الفلسطينية” في وجه العروبة، واعتمد “سياسة التوريط” ليس من أجل التثوير بل بمنطق “حسناً، فليصب الكل مثل ما أصابني، وما هم أن تسقط مدن وأقطار عربية أخرى، فهذه القدس قد سقطت، وكذلك يافا وعكا والناصرة الخ”؟؟!
وهذا الكلام لا يقال اليوم ومن موقع الشماتة، معاذ الله، أو من باب اللوم المتأخر، في ضوء النتائج، ولكنه قيل وكتب مع بدايات صعود الكفاح المسلح الفلسطيني، وكان للمفكر منح الصلح دور بارز في هذا المجال، ومثله العديد من الكتاب والمفكرين والصحافيين العرب في بيروت وفي القاهرة وخارجهما.
والكيانية توأم للطائفية، وهي اسم آخر للمرض ذاته كما تدل تجربتنا في لبنان.
والكيانية الفلسطينية، مثل الكيانية اللبناية (ونموذجها الفج الكتائب)، ومن الطبيعة ذاتها وهي الطبيعة المولدة لمشاعر مرضية بينها التفرد والميل إلى الاحتكار والتميز وابتداع الأسباب لممارسة الاستعلاء على الآخرين، وصولاً إلى افتراض القدرة الخارقة (كما سوبرمان).
وإذا كان الابتعاد عن الثورة قد أسقط السبب القومي لتمييز الفلسطيني، فإن الانجراف مع الكيانية أفقده علاقته بالثورة في صورتها الأكمل: فالثورة أن تكون كل الناس وأن تقوم بهم ومعهم ومن أجلهم بما لم يقم به الغير على أن يظل “البطل” الناس ، الشعب، الأمة لا الفرد، وليس أن تكون فوق الناس وبديلاً عنهم و”البطل الوحيد” في قوم من المتخاذلين والجبناء!
على إن ثمة استدراكاً يفرض نفسه هنا، بالضرورة، وخلاصته:
“ليس مطلوباً ولا مقبولاً أن يفرض على الفلسطيني أو أن يرتضي أن يكون أدنى من اللبناني ، المطلوب أن يتخلى عن امتيازاته فيساويه ، لن يكون أبداً هو ولا يجوز أن يكون، بل يجب أن يظل فلسطينياً بهويته وقضيته وهمومه وحقه في العمل لاستعادة وطنه، ولكن ليس دون اللبناني في الحقوق الطبيعية، في ما عدا الهوية”.
*يتصل بهذه الحقيقة: إن المواطن اللبناني، لاسيما الجنوبي، هو الآن المهدد بخطرالشعور بالتميز والاستعلاء على الآخرين، فعبر مقاومته الباسلة لجيش الاحتلال، وعبر إحساسه بأنه قد حقق نصراً ما على القوة الإسرائيلية التي كانت تدعي إنها لا تهزم، وإنها قادرة على إلحاق الهزيمة بجيوش العرب مجتمعين، ثم عبر المرارة التي استشعرها ويستشعرها وهو يلاقي تخلي العرب (بأنظمتهم) عنه. وعندم الاعتراف به مقاتلاً فذاً في أشرف معاركهم القومية.. عبر ذلك كله نما لديه شعوره بالتميز، وبأنه “سوبرمان” وبأنه قد أتى ما لم يأته الأولون والآخرون، وإنه عوّض الغياب الفلسطيني عن المعركة الأم حينما دقت ساعتها، ورأى الكل يهرول تاركاً الجنوب لمصيره وحيداً، عاجزاً، مسلوب الإرادة!!
*ويتصل بهذه الحقيقة أيضاً: إن المواطن اللبناني تجرع في الفترة السابقة على الاجتياح الإسرائيلي مرارات هائلة. وكان بوسعه أن يرى وبوضوح إن خطأ الفلسطيني في الممارسة اليومية، سواء في بيروت أو في الجنوب حيث حصلت كوارث حقيقية كان يتكامل مع خطأ القيادة الفلسطينية السياسي في إدارتها للصراع مع العدو الإسرائيلي… فالتجاوز صار الابن الشرعي للانحراف عن موجبات التحرير، ولم يعد مجرد مسلك شخصي مؤذ، بل هو غدا – بشقيه – منهجاً كان لا بد أن يؤذي قضية فلسطين وشعبها وأهداف نضاله المجيد.
في ضوء هذه الحقيقة يمكن فهم الرفض الشعبي العام لعودة السلاح الفلسطيني إلى الجنوبن أو لاستمرار وجوده في بيروت.
فليس الأمر نتيجة رعب من احتمال عودة العدو الإسرائيلي، بكل ما يعنيه، إلى مناطق سبق أن طهرها أهلها بدمائهم الزكية، وبكل ما ملكت إيمانهم، وإن كان مثل هذا الهاجس أو الكابوس، يقض مضاجع الجنوبيين (واللبنانيين) جميعاً.
الرفض ينبع أساساً من حقيقة إن هذا السلاح الفلسطيني، الكثير الكثير والفعال ما هو مكشوف منه أو مكدس في المستودعات والانفاق، لم يستعمل كما يجب وبالكفاءة المطلوبة حين عزت الحاجة إلى المقاتلين بالسلاح.
أما حيث وفي الحالات التي لم يكن استخدام هذا السلاح موجب فقد استخدم أكثر مما ينبغي وضد من لا يفترض أن يحكم السلاح علاقتهم بالقضية وأهلها.
ومرة قال الرئيس سليم الحص وهو يرى تذمر بعض الناس من قعقعة المدافع المضادة للطائرات وهي تطلق رشقاتها الهادرة على مقاتلات عدوة مغيرة: “- لا تسيئوا فهم الناس، إنهم لا يشكون لأن المدافع تنطق بعد صمت، ولكن لأن المدافع لا تصيب أهدافها”.
*ويتصل بالحقيقة ذاتها،أيضاً وأيضاً: إن الجنوبيين واجهوا ويواجهون مجموعة من التساؤلات التي لا يجدون أجوبة مقنعة لها.
** بين تلك التساؤلات : لقد كانت البداية الثورية للعمل الفلسطيني المسلح في لبنان معنا وبنا، في بيوتنا وقرانا ودساكرنا وحواضرنا، وعلى حساب أشياء كثيرة عزيزة وغالية، وهذا مما يشرفنا ونفاخر به على مر الأجيال، ولكن… لماذا تحولنا، مع النهاية البائسة لهذه التجربة، إلى غير ما كنا عليه؟! في البداية كنا قوميين حتى العظم، بل كنا نموذج الوحدويين العرب والمضحين من أجل القضية بهناءة عيشنا وأرواحنا ذاتها، فلماذا وكيف حولونا في النهاية إلى مجرد مذهبيين معادينه للشعب الفلسطيني وقضيته التي تربينا وتعلمنا عبر حقائق الحياة إنها قضيتنا بالقدر ذاته؟!
** وبينها أيضاً: لماذا أنكرت علينا قوميتنا حتى ونحن نقاتل العدو الإسرائيلي، كما لم يقاتله أحد في مثل ظروفنا وإمكاناتنا المادية والعملية البائسة؟!
لماذا كانت المنظمات الفلسطينية، وأساساً القيادة الرسمية لمنظمة التحريري، تتسابق على إصدار البيانات في ادعاء عمليات يعرف الكل إننا من قام بها، سواء كأفراد أو كعناصر منتمية إلى تنظيمات وأحزاب تحتل فيها الاتجاهات الإسلامية و”أمل” بالذات موقع الصدارة، ثم “حزب الله”، لكن بينها أيضاً الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي ومنظمة العمل الشيوعي وحزب البعث والاتحاد الاشتراكي والتنظيم الشعبي الناصري، وبغير أن نلغي دور المقاتل الفلسطيني (على محدوديته) وسواء مباشرة أو بالواسطة؟!
*الحقيقة السابعة: إن ثمة صورة معينة لبيروت في العقل الفلسطيني لا يريد أن يتخلى عنها أو يعترف بأنها قد زالت تماماً ولن تعود، ويرفض أن يسلم كما كانت لخيره كما لخير أخيه، في لبنان.
لقد كانت بيروت ولفترة “عاصمة” الدولة الفلسطينية ومركز الحكم، صحيح إنه بلا دولة، فعلياً، وعلى أرضه، ولكن له “عاصمة”. صحيح إنها مستعارة أو مختطفة. ولكنها على أي حال تعوضه ما لم يكن عنده في أي يوم وما كان يتمنى أن يكون له على الدوام.
والمؤسف أن صورة بيروت هذه تعشش في وجدان الجميع وليس “العرفاتيين” وحدهم.
بيروت – العاصمة – الجميلة، بيروت المركز السياسي العظيم والمركز الإعلامي المدوي، بيروت المتروكة طوعاً أو بقوة الأمر الواقع لهم يمارسون فيها السلطة كما لم يمارسوها أبداً وكما مورست عليهم باستمرار، بيروت مطبعة العرب وجريدتهم ومصرفهم وقلب حركة الصراع على المنطقة، الكل فيها يعملون، يتحركون، ينشطون، يتصلون ويتواصلون…
بيروت “البدل عن ضائع” أو عن “مفتقد” هي بذاتها المطلب والموضوع. ليس بكونها المعبر والممر إلى الجنوب فإلى فلسطين، بل بذاتها، بناسها المسلمين قيادهم للقيادة الفلسطينية باعتبارها المسؤولة عن القضية، من قرارهم السياسي إلى الأفران.
يبروت، هذه، صعب فقدها وأصعب منه الاعتراف بأن العودة إليها متعذرة، وأعادتها إلى ما كانت عليه مستحيلة،
لكن مثل هذا الاعتراف يتطلب ما هو أكثر من الشجاعة : إنه يتطلب إعادة نظر جذرية في صيغة العمل الوطني الفلسطيني ومنهاجه ووسائل تحقيقه، في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بكل نتائجه المريعة.
وإعادة النظر هذه تصدر فقط عن قيادة تاريخية قادرة على أخذ القرارات المصيرية، مهما كانت مؤلمة وخطيرة، وتحمل المسؤولية عن اتخاذها انطلاقاً من كونها القادرة والمؤهلة على إيصال شعبها إلى غده الأفضل.
وليس من الضروري أو الحتمي دائماً أن يكون الغد الأفضل على حساب الحاضر ولكن من الجريمة أن يترك خطأ الحاضر يتفاقم بحيث يلتهم الغد والقضية.
ما القصد من هذا الكلام، ولماذا التركيز على الفلسطينيين، الآن وهم بالنسبة لنا كما للعالم أجمع في موقع الضحية؟!
والجواب بسيط: إن قضية فلسطين كانت وتبقى قضيتنا جميعاً، كعرب، وكجيل تربى على الفكر القومي وعلى الإحساس بالمسؤولية الشاملة عن كل الأرض العربية. وأساساً عن المحتل منها أو المستعمر أو المقهورة إرادة شعبه بجور حاكمه أو نظامه.
وبالتحديد فإن تحرير فلسطين هو الذي يعنينا، وليس المفاوضات مع الأميركيين ولا التنازلات والتراجعات المتوالية وصولاً إلى إعلان القبول بالقرار 242 وما ماثله أو تفرع عنه مما يلغي القضية ومبرر البندقية.
كذلك لا يعنينا في كثير أو قليل “اتفاق عمان” ومشاريع الفدرالية والكونفدرالية وسائر أشكال التوحد مع الملك حسين.
وبالمقابل لا تعنينا في شيء تلك المزايدات التي ترفع الصوت بالاعتراض على سياسات عرفات ثم لا تقدم ما ينبغي على أية قيادة ترى في نفسها الكفاءة والشجاعة أن تقدمه: أي المنهج البديل الذي يحمي النضال الفلسطيني فيغده، إذا كان متعذراً إيصال أهدافه في الحال أو في مستقبل قريب.
ولا تعنينا بأية حال، تلك السياسة الرعناء والمدمرة التي تقوم على اعتبار لبنان مجرد “ساحة” إذا تم الرحيل منها إلى غيرها، لأسباب قاهرة، فلا يهم ماذا يحدث لها بعد ذلك.. وهي وليدة منهج الاحتراف الذي كان لا بد أن تنتهي إليه الكيانية.
وللمناسبة فإن هذه الكيانية الفلسطينية أنجبت شوفينية قاتلة جعلت الفلسطينيين يتوهون بين حقيقة إنهم بعض أمتهم العربية، وبين إنهم “أمة” أخرى، من قومية أخرى، لا تربطهم بسائر العرب غير علاقات من طبيعة انتهازية، فالكل يغش الكل، ويتحايل عليه، بل ويتآمر عليه، ليصل إلى غرضه بلا رادع من وحدة المصلحة أو وحدة القضية أو وحدة المصير، خصوصاً وإن العدو واحد وإن أغفل هذه الحقيقة بعض قصار النظر أو بعض المتوهمين أو..
والشوفينية الفلسطينية تسببت في تبرير شوفينيات أخرى في مختلف أرجاء الوطن العربي، فهي كانت محصنة بوهج الثورة وقداسة القضية.
وشيئاً فشيئاً، ومع التراجع في حركة القومية العربية التي اعتبرت قيادة حركة المقاومة الفلسطينية نفسها البديل عنها. وعملت ما في وسعها لتسريع انكفائها وتبعثر مكوناتها، أطلت الكيانية والشوفينية في كل أرض عربية، مبررة ذاتها بالخصوصيات واسباب التمايز في المصالح، أو بالعودة لاستنطاق التاريخ واستحضار قوميات وأعراق وارومات منقرضة.
وهكذا حين تم الانفصال الكامل بين أجزاء الأمة، فلم يعد أحد مهتماً بأحد غيره، بل إن البعض أخذ يفرح ويسعد بمصائب غيره لتوهمه إنه سيجني مردوداً طيباً، نتيجة غياب الآخر،إن على مستوى السياسة والزعامات أو على مستوى الاقتصاد والخيرات، أو على مستوى المكانة الدولية واعتباره قطب المفاوضات ومرجعها.
وفي ما يخص لبنان فلقد تصرفت القيادة الرسمية لمنظمة التحرير بمنطق “آخذه أنا أو أخربه على غيري”.. كان تخريبه يخدم قضيتها، أو كان ذلك سينعكس خيراً وسلاماً على وجود الفلسطينيين في لبنان ومصالحهم فيه.
ومن أسف إن هذا المنطق وجد من يأخذ به حتى في الأوساط الفلسطينية المناهضة لقيادة عرفات متناسياً أو قافزاً من فوق حقيقة مفادها إن التخريب، وفي هذه الظروف بالذات، ينصب أولاً وأخيراً على المشروع الوطني فيلبنان، ويتسبب في انتكاسة حالة النهوض الشعبي التي ولدتها مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واتفاق 17 ايار وسياسة الهيمنة الكتائبية.
وبدا في لحظة وكان الكل قد تجاهلوا حقيقة إن حماية القضية الفلسطينية وحماية الوجود الفلسطيني، وحماية الهوية الفلسطينية، والحقوق الطبيعية لجموع الفلسطينيين في لبنان. لا يمكن أن تتامن إلا في ظل انتصار المشروع الوطني ونجاحه في إقامة نظام وطني وحكم وطني يلتزم بموجبات هوية لبنان العربية وانتمائه القومي.
ومن أسف أيضاً أن بعض الأوساط الفلسطينية المناهضة لعرفات قد تجاهلت حقيقة أخرى: وهي إن المواطن اللبناني بات يضيق ذرعاً بأي سلاح كان وبيد أي طرف كان، حتى مع استمراره في التمييز بين الأطراف وعلى أسس وطنية وقومية، وهكذا فقد ألحت على طرح موضوع السلاح الفلسطيني ومهماته القديمة (!!) وكان الزمان ما زال هو الزمان، والدفاع عن هذا السلاح هو عنوان القضية الوطنية في لبنان.
في أي حال، نأمل أن يكون “اتفاق دمشق” مدخلاً لمعالجة عميقة وجدية، لموضوع الوجود الفلسطيني في لبنان، وهي معالجة يجب أن تتجاوز الشق الأمني من الموضوع لتنصب على الجانب السياسي منه.
والمسرح خال في انتظار قيادة فلسطينية تاريخية قادرة على مصارحة شعبها بأن مرحلة ما من مراحل نضاله قد انتهت بغير أن تحقق أهداف ذلك النضال وإن مرحلة من طبيعة أخرى تماماً هي الآتية وعليه أن يعد نفسه جيداً لمهماتها.
ولعل عنوان هذه المرحلة سيكون: إن الثورة تكون في الداخل أولاً، وشعب الداخل، ويكون من في الخارج روافد وعناصر مساعدة وليس العكس.
وهذا موضوع كبير متروك للنقاش على أي حال.
والكل ينتظر أن يسمع من الفلسطينيين، من مثقفيهم وعمالهم وكوادرهم، من مناضليهم ومن قياداتهم التي لم يلوثها الانحراف ولم تجرفها الكيانية ولم يبهرها بريق السلطة المتوهمة، وهم كثر داخل فلسطين المحتلة وخارجها.
ينتظر أن يسمع منهم ليس فقط ماذا يريدون من لبنان وفيه، بل أولاً واساساً كيف سيصلون بالثورة إلى قلب فلسطين.
والثورة، في فلسطين كما في سائر أنحاء الوطن العربي، تكون عربية وحدوية اشتراكية وديمقراطية أو لا تكون.
ملاحظة أخيرة: لا تعني هذه الكلمات ولا تقصد أن تبرئ جهة أو أحداً من مسؤولية الدم الذي أريق في “حرب الأشقاء” في المخيمات ومن حولها، ولم تقفز من فوق هذه “الكريهة” بدافع الخوف أو تجنب مواجهة الحقيقة، ولكنها قصدت أن تركز على الموضوع الأصلي، المفتوح من قبل ومن بعد، وهو موضوع مستقبل العمل الوطني الفلسطيني، وبالتبعية مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان.
كما قصدت أن تمهد لمناقشة جدية أخرى موضوعها: ضرورة إخراج أو خروج العنصر الفلسطيني من الحرب الأهلية في لبنان، حماية للمسألة الوطنية الفلسطينية كما للمسألة الوطنية فيلبنان.
وتلك مواضيع سنعود إليها متى هدات الخواطر والمشاعرن ومتى صمت رصاص الاشتباكات غير المبررة بين رفاق السلاح المفتقد أكثر فأكثر إلى المبرر الوطني.
.. والآن يجيء دور غيرنا في الإسهام في هذه “الدعوة إلى الإنقاذ… بالحوار”.
ونحن في انتظار المساهمين والمساهمات،
أي إننا في انتظار كلمن يريد أن يحمي حقه بالديمقراطية وسائر الحريات بقول رايه وإعلان موقفه، وليس بالصمت انتظاراً لما سيكون.
وقديماً قيل: يكون ما نريد، أو نكون ما يراد لنا أن يكون.
وبرغم كل شيء فما زلنا نأمل ونحاول أن يكون لنا الغد الذي نريد والذي نستحق.
ما زلنا نأمل أن تنبثق الوردة من قلب الحريق ، عطرة، بهية، مغتسلة بقطرات الندى.