طلال سلمان

على الطريق بطريرك الدولة ودولة البطريرك…

غالباً ما تكون الصراحة، ولو موجعة، أقصر الطرق إلى المصالحة والتسوية.
ولقد كان البطريرك الماروني صريحاً إلى حد القسوة وهو يخاطب الدولة، أمس، وعبر رسالته لمناسبة عيد الفصح المجيد، متسائلاً عن موقع المسيحيين فيها، وعن علاقتها بهم في الحاضر ثم في المستقبل ودورهم (كطائفة) فيها.
لم يكن خارج الدولة تماماً، ولكنه لم يكن تماماً فيها، كان في قلب السؤال، تاركاً لها أن توفر الإجابة الصعبة التي قد تكون بمثابة “الاعتراف” الذي لا بد بعده من “تلاوة فعل الندامة” طلباً للغفران.
وهو لم يكن يعبر فقط عن القلق، ولكنه كان يضع – عبر الأسئلة والتساؤلات الشاملة لهموم المقيم والمغترب – إطاراً عاماً لبرنامج أو لمشروع سياسي يتخذ من “المسيحيين” لا من “الدولة” إطاراً للحركة. وبديهي أن “المسيحيين” عند البطريرك الماروني هم الموارنة أساساً.
لم يندفع البطريرك صفير وراء التشكي من الخلل في التوازن إلى حد تبني الشعارات التقسيمية، ملتحقاً بطروحات قيادات “أصيلة” في ذلك المجال كسمير جعجع، أو طارئة ومستجدة كميشال عون.
لكنه قال الكلام الذي يستهوي ويستقطب “جمهور” جعجع وعون وسائر المعترضين على “جمهورية الطائف” في الداخل والخارج.
بالمقابل، وفي الوقت عينه، كان رئيس الرهبنة اللبنانية المارونية الأباتي يوحنا ثابت يتوجه مباشرة إلى “الدولة”، في جامعة الروح القدس بالكسليك، مخاطباً “رئيس الجمهورية”، بلهجة مختلفة في نبراتها ومضمونها عن لهجة البطريرك، ومتجاوزاً موقف الاستنكاف أو الإحباط أو اليأس أو الغربة عن “الدولة” والتحصن بالطائفة خارجها.
على أن ذلك لا يعني، بأية حال، أن الأسئلة والتساؤلات التي طرحها البطريرك صفير غير جدية وغير مشروعة، وإن كان المأخذ عليها أنها حصرت بالأمر بالمسيحيين في حين كان يفضل لو أبقيت في الإطار الوطني العام، إذاً لكانت أثارت حواراً واسعاً وجدياً ومطلوباً حول وجوه الخلل في “الجمهورية الثانية”، وهي كثيرة ولا تتصل بطائفة بالذات.
والحقيقة أن “الدولة” القائمة وكأنها نتاج الطائف ودستوره الجديد قد ورثت معظم عيوب “دولة الميثاق والصيغة” السابقة، وأضافت إليها عيوب التسرع والارتجال وشخصنة الطوائف وبالتالي المطالب في مجموعة من القيادات والزعامات التي ولدتها الحرب، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
فالأكثرية الساحقة من اللبنانيين يفتقدون المعاملة بالمساواة كما، يفتقدون احتضان الدولة لهم كمواطنين.
كذلك فإن الأكثرية الساحقة من أولئك الذين هاجروا، وبغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية، لم يعودوا، ومن عاد منهم فإنما لأنه عجز عن البقاء غريباً في بلاد لا توفر له لقمة الخبز والأمان الاجتماعي.
والأكثرية الساحقة من المقيمين يشكون، وقليل بينهم الراضي عن وضعه، أو عن دوره، خصوصاً وإن الدور محكوم بتوكيد الانتماء إلى الطائفة عبر الانخراط في صفوف الأتباع لمن كرس وثبت وكيلاً حصرياً أو ممثلاً شرعياً وحيداً للطائفة، في الوطن كما في المهجر!
كذلك فإن نسبة كبيرة وكبيرة جداً من اللبنانيين، وعلى اختلاف انتماءاتهم الطائفية، تفكر بإعداد مستقبل لأولادها خارج لبنان… والذين حصلوا على جنسيات أخرى، وبأية وسيلة، يعدون بعشرات الألوف إن لم يكن بمئات الألوف.
إن الأسئلة والتساؤلات التي طرحها البطريرك صفير مشروعة بمجملها، لكنها لا تخص المسيحيين فقط، بل لعلها تضج في صدور الكثرة الغالبة من اللبنانيين، وإن كان بعضهم ينسبها إلى طبيعة المرحلة الانتقالية التي تعيشها هذه “الدولة قيد التأسيس”.
لعل البطريرك صفير يستشعر الآن أنه لم يعد “بطريرك الدولة”، ويفتقد فيالوقت عينه “دولة البطريرك”.
لعله يستهول أن يكون الموارنة قد صاروا مثل الآخرين، مع وعيه الكامل بأن أولئك الآخرين (سائر الطوائف) لم يصيروا على ما كان عليه الموارنة في زمن “الجمهورية الأولى”.
لقد انتهى عهد الطائفة الواحدة، ذات الامتياز والموقع الممتاز، ولتلك النهاية أسباب معلومة ومكتوبة بالعذابات والآلام والدماء… وهي تتصل أساساً بطبيعة التحولات والتطور الاجتماعي، أي بحقائق الحياة.
أي أن التحول لم يأت لنقص في أهلية الموارنة فقط، بل لأن الآخرين طالبوا بمواقع لهم وأدوار طالما أن النظام طوائفي… وكان لا بد أن يتواضع، أو أن “يتنازل” من يملك أكثر من حقه، وبالذات الموارنة، لكي تتسع المساحة المحدودة للجميع.
هذا بالمنطق الطائفي،
أما بمنطق الخارج على الطوائف فيمكن القول براحة ضمير أن اللبنانيين قد تعودوا أن يطلبوا الشيء ونقيضه: يطلبون الدولة، لكنهم لا يريدون مغادرة الطوائف لأنها ضمانة الهيمنة على الدولة أو المشاركة في تقاسمها… وهكذا يسقطون كل محاولة لبناء الدولة لكي تبقى المواقع والامتيازات الطائفية، بغض النظر عن حجمها.
فرئيس الدائرة قد يكون امتيازاً طائفياً له قداسة الامتياز في موقع الرئيس الأول…
والمعضلة مرشحة لأن تدوم طويلاً طالما احتاجت المواقع والأدوار الأساسية كما الثانوية في الدولة بركة الطوائف ومراجعها. وطالما ظلت المراجع الروحية تعتبر نفسها صاحبة حق في ممارسة وصاية ما على الدولة بوصفها دولة ذات نظام طوائفي.
والنظام الطوائفي يبرر النزعات الانتحارية ممثلة بالشعارات التقسيمية،
وهكذا فإن هذا النظام سيظل يولد باستمرار من يعمل لهدمه: نادراً عن يساره، عبر الحركة السياسية، وغالباً عن يمينه ومن خلال “أبنائه الشرعيين” أنفسهم، أولئك الذين يندفعون مع الطائفية إلى مداها القاتل.
وبالطبع فليس البطريرك صفير بين هؤلاء، بل هو خصمهم، مبدئياً، وغالباً ما يوجهون إليه السهام لاستيعابه أو لإرهابه،
بل إنه صاحب ثأر عليهم، يستحيل أن ينساه مهما جاملوه أو نافقوه الآن، في محاولة للإفادة من موقعه للقفز هذه المرة على الدولة وباسم الطائفة، وقد قفزوا في الماضي القريب على رمز الطائفة باسم الدولة التي سرعان ما أنكروها ثم أعملوا مدافعهم فيها وفي شعبها الذي لما ينته أسبوع آلامه الطويل.
وللبطريرك صفير دوره الطبيعي في إطلاق الحوار صحياً وبأفق وطني، وهو دور يتجاوز السؤال إلى محاولة توفير الأجوبة السليمة.

Exit mobile version