من حق رفيق الحريري أن يقول الآن بكثير من الألم: من بيت أبي ضربت!
لقد ذهب قاصداً نخوة الملك فهد بن عبد العزيز وشهامته فجاءه الرد من باحث عن الذهب في أحشاء بيروت المهدمة يدفع حفنة الدولارات، بالتقسيط، ليأخذها بيدراً من الدولارات عداً ونقداً.
قصد الملك فتلقاه المضارب.
وبدلاً من أن يعطوا لبنان عبره نظموا كيف سيأخذون مما تبقى من لبنان باستغلال علاقته بهم واعتماده عليهم.
ذهب ساعياً على حلم المساعدة الملكية في إعادة إعمار لبنان فإذا بكبير المرابين في مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض يطرح لبنان للبيع، عاصمة وجبلاً، في “مناقصة” علنية تكاد تكون صورة طبق الأصل عن “التفليسة” الدولية.
وبالتأكيد فإن رفيق الحريري لم يأتي إلى الحكم لكي يبيع لبنان أو يرهنه، لا بأرشه ولا بإرادته ولا بقراره السياسي.
لكن “الأخوة – الأعداء” في المملكة، لاسيما الغيلان والحيتان ممن جمعوا ثرواتهم بالحرام ومن الحرام، تصرفوا معه وكأنه “وكيل تفليسة” أو حتى مجرد “سمسار عقاري” يعرض بيع حلم الوطن من أجل إنجاح السياحة (!!) والترفيه عن المصطافين المتعبين.
وليست إهانة أن يقال إن أمثال هؤلاء من المستثمرين (وهو التعبير المهذب والعصري لكلمات “بائدة” مثل “المستغلين” أو “المحتكرين” أو “الطغمة المالية”، أو “القطط السمان”… الخ) هم – بالتكوين وبالنشأة – أعداء الدولة.
فهم لم يكبروا، وما كان ممكناً أن يكبروا، إلا حيث لا “دولة”.
إنهم لا يكبرون إلا على حساب “الدولة”، بما هي أرض وشعب ومؤسسات.
وهؤلاء لا علاقة لهم بالأرض، فحيث الربح هناك مرتعهم، ولا يهم أن تكون الأرض في أقصى الشرق الأقصى، أو في ألاسكا، في قلب أفريقيا أو في وسط أوروبا، والأرض “الأحب” هي التي يستطيعون أن ينهبوا خيراتها (معفاة من الضرائب!) بأقصى سرعة وبغير رقابة أو مساءلة وفي أقصر مدى زمني.
كذلك فهؤلاء لا علاقة لهم بهذا المخلوق الأسطوري المخيف الذي اسمه “الشعب”…
فإن وجدت فهي علاقة كراهية وأحقاد متبادلة: هم يخافونه ولا يجرؤون على مواجهته لأنهم يدركون تماماً إنهم إنما يتمتعون بحقوقه، ويسفحون “أمواله” على سفههم ومباذلهم، وإن ثرواتهم إنما جاءت على حساب لقمة عيشه وحقه في العيش الكريم… وهو يخافهم لأنهم يتحركون في الظلام ويشترون حكامه ونخبه وشوقه على الحرية.
ثم إن هؤلاء هم – بالطبيعة – ضد “المؤسسات”ز
إن المؤسسات، كمجلس النواب ومجلس الوزراء والصحافة والأحزاب والتنظيمات المؤكدة للديموقراطية، هي – في خاتمة المطاف ومهما ضعفت بنيتها – أجهزة رقابة: تسأل وتستفسر وتتهم وتدقق وتستقصي، وتحرك سلطة القضاء من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل ومنع النهب والتبذير وإساءة استخدام المال العام.
على هذا فهم استبعدوا الدولة من أي حديث مع “صاحب الدولة” رفيق الحريري وتحدثوا إليه وفاوضوه وساوموه وكأنه واحد منهم يعرض عليهم صفقة العمر التي لا يملك من المال ما يكفي لكي يحتكرأرباحها الهائلة.
في أي حال يمكن أن يسجل للمستثمرين السعوديين إنهم قد بزوا أقرانهم من “يهود الخليج” في الكويت المحررة… من العرب.
لقد بالغوا في شروطهم فذهبوا أبعد مما يطمح أبطال “سوق المناخ” من “بناة الكويت الحديثة”… ومن أبطال مكتب الاستثمار الأميركي الكويتي (ومقره لندن) الذين تسببت مجموعتهم القابضة في إلحاق خسارة فلكية أخرى بالمال العام مؤخراً، عبر شركة “توراس” الإسبانية.
إن هؤلاء يتصرفون وفق قاعدة محددة: المال من الدولة والربح لنا والخسارة عليها، فنحن التجارة والتجار، أما الدولة فليست أكثر من موضوع للتجارة و”كفيل” و”ضامن” عليه فقط أن يدفع أعباء المغامرة والخسارة (سواء أكانت صحيحة أم مزورة).
“زارتنا البركة” أيها المضروب من بيت أبيه.
ولكن، هل كان من الضروري أن نذهب على أقصى الأرض بحثاً عن مستثمرين يتقنون فن الربح وحول طاولة مجلس الوزراء عدد كبير من خريجي المدرسة ذاتها، والذين لا بد أن يكونوا أرأف بلبنان “أرضاً وشعباً ومؤسسات”، أي لبنان الدولة، خصوصاً وإنهم يعرفون كيف يميزون بينك كـ “صاحب الدولة” وبينك كرفيق الحريري، رجل الأعمال الناجح مع الحفاظ على صورته كإنسان؟!
ليست للاستثمار هوية وليس له دين أو وازع من مكارم الأخلاق.
ولا تنفع مع المستثمرين عبارات عاطفية أو مناشدة أو التذكير بالقيم العظيمة كالوطنية والعروبة وحقوق الإنسان، بل إن هذه العبارات تنفرهم وتجعلهم يفرون إلى حيث لا يذكرهم أحد لا بأصلهم ولا بواجباتهم تجاه أرضهم أو شعبهم أو المؤسسات، وبالتالي الدولة أو حلم الوطن على وجه الخصوص.
ولبنان لا يكون إلا عربياً، ولن تبنيه إلا أموال العربية، ولطالما استثمر المتمولون العرب بعض رساميلهم في لبنان، مع الترحيب والود وإكرام الوفادة.
وقد يكون لبنان اليوم أكثر حاجة إليهم منه بالأمس.
ولكننا نريدهم لتثبيت هوية لبنان العربية، ولإعادة بناء الدولة فيه، وليس على حساب هذه وتلك.
من هنا كان التوجه إلى “الملك” و”المملكة” وإلى “الطائف” و”الصندوق الدولي لإعادة إعمار لبنان”، وليس إلى “المضارب” والباحث عن عاصمة مفروشة للبيع، أو عن مصايف يمكن شراؤها بأهلها وأنهارها وهوائها وفاككهتها وسواقيها وصوت فيروز ينساب نهراً من الحنان من خلل كروز الصنوبر في جبالها الشم!
فإذا جاء “الملك” فسيقول الناس: حلت البركة.
… أما في غياب “الملك” و”المملكة” فـ “البركة فيكم” أيها المتحلقون من حول طاولة ستبقى – حتى إشعار آخر – إحدى مؤسسات ادلولة وليست “وكيل تفليسة” لدولة بائدة!