أهم ما في “الصراع” حول الانتخابات أنه يعكس جسامة التحولات التي أصابت الحياة السياسية في لبنان، مناهجها ورموزها وتوازناتها الدقيقة بكل حساسياتها إزاء قوى التأثير والنفوذ الخارجي.
إنه “لبنان آخر” لشدة اختلافه عن الذي كان،
ولعل الانتخابات – بكل ما قيل ويقال فيها، وبكل ما قد يجري فيها – هي المرآة التي تتبدى فيها ملامح هذا “المخلوق” الجديد الذي يكاد ينكره أهله، للوهلة الأولى وقيل أن يتنبهوا إلى أنه ثمرة التشوهات التي أصابتهم فبدلتهم تبديلاً.
إنها المناسبة الأولى لاستجماع حصيلة ما جرى وتجميع أجزاء الصورة المقطعة والمتناثرة والتي ربما ضاع بعضها فاستبدل بالمتيسر، وأحل “الحاضر”، كائناً من كان بالغائب أو المغيّب أو مغيّب نفسه.
منذ عام ونصف فقط، ثم فتح “المعابر”، فتلاقى اللبنانيون مجدداً، وأخذوا يسوحون ليتعرفوا على بلاد “الآخرين” من أبناء شعبهم الصغير… لكنها كانت مجرد “نظرة من هنا إلى هناك”، تفتقد الذاكرة والذكريات والعلاقات الحميمة والشعور بالترابط المصيري.
أما اليوم فاللبنانيون يتعرفون إلى بعضهم البعض سياسياً بعد طول افتراق وخنادق ومدافع وحواجز قتل على الهوية وأحقاد ترضعها “أرامل الشهداء والمفقودين” لمن يتمهم رصاص القنص، ويتوارثها من دمرت بيوتهم مسلسلات القص العشوائي المتعددة الجبهات.
وكما أنه “لبنان آخر” على الأرض، وعبر الحجر، قلب عاصمته مفتوح للريح وبطنها مبقور وجوانبها مهدمة أو مصدعة.
.. كذلك فهو “لبنان آخر” في السياسة وعبر البشر الذين امتصت “الحروب” المتواصلة، مع تبدل في الشعارات، حيويتهم وحماستهم، فتبلدوا باليأس والإحباط ومرارة الانجراف وراء الرهانات الخاسرة والمقامرين بالأرواح من أجل حفنة من الدولارات أو “زعامات” يختلط فيها “النخاس” بالصنم المقدس بفرسان الجمل “الثورية” ذات المنحى الطائفي أو المذهبي الصريح.
إنه “لبنان آخر” بلبنانيين آخرين، كلهم يعيد ترميم نفسه (أو استكشافها) وعلاقته بالآخرين، ثم … علاقته بجمهوريته التي كثر آباؤها حتى غدت يتيمة!
كل الناس على غير ما كانوا، وكل الأمور اختلفت في سياقها ونتائجها عما كانت عليه.
.. وبكركي، بسيدها والمطارنة ومن وما تمثل، تبدو مذهولة بحجم التحولات التي دهمتها بأكمل تجلياتها عبر مشروع الانتخابات.
وصحيح إن التحولات ليست بمجملها طبيعية، ففيها المصطنع أو المفتعل أو المضخم لإلغاء أو طمس ما قبلها، لكنها خطيرة ومذهلة، حتى في المتوقع منها.
وكلام البطريرك الماروني، المعلن منه والمهموس، يكشف استهواله لحجم هذه التحولات التي لا يستطيع أن يقبلها حتى لو سلم بحيثياتها، وتفهم إنها بعض “الجديد” الذي استولدته الحرب، أو استنبتته التبدلات التي طرأت على العالم كله فجعلته أشد ما يكون اختلافاً عن الذي كان قبل سنة أو سنتين!
ومؤكد إن البطريرك ومطارنته قد سمعوا خلال لقاءات بكركي، ولاسيما الأخير منها، مساء أمس الأول، كلاماً جديداً عليهم (مستهجناً أو غير متوقع)، بقدر ما استقبلوه وجوهاً جديدة لم يكونوا يعرفون أصحابها ولم يكن هؤلاء يعرفون الطريق إلى “الصرح البطريركي”.
لا شك أن سليمان طوني فرنجية قد قال جديداً لم تكن بكري في وارد التحسب له، سيما وقد اتسهم بهذا القدر من الجرأة والعلانية والمنطق. والجديد الذي قاله هذا الفتى المفجوع في والديه وهو طفل، ممن يعرف الجميع قتلتهم، لا بد أن يلفت انتباه بكركي وسيدها إلى جوانب أخرى للمسألة تسقط عن المنادين بالمقاطعة براءة القصد والحرص على الديموقراطية، أو بأصرح: الحرص على موقع المسيحيين، والموارنة تحديداً، في السطلة، وهو قد كان متميزاً ، ناهيك بسلامتهم واستمرارهم في وطنهم الذي كان الواحدة في دنيا العرب وكانوا فيه من أهل الحظوة رواداً ومقلدين.
ولا شك أن ميشال المر، الأرثوذكسي، قد قال ما لم يكن مألوفاً سماعه، ولم يكن يجوز إعلانه، لاسيما في مكان مثل بكركي.
وما قاله المر ليس “تمرداً” على القيادة المارونية فحسب، ولكنه قبل ذلك تسفيه لمنطق يراد فرضه على المسيحيين عامة، ومن ثم على اللبنانيين، باعتباره يعكس “إرادة الشعب المسيحي”، وكأن هذا “الشعب” يرى نفسه منفياً مع ميشال عون، ومضطهداً مع سمير جعجع، ومشطوباً مع أمين الجميل، وكأن هؤلاء هم القيادة التاريخية الفذة التي أنقذت موقع الموارنة في السلطة ودور المسيحيين في لبنان ووفرت لهم السلامة والازدهار والسؤدد!
ولا شك أن أصواتأً أخرى ارتفعت، في الداخل، ببعض ما قاله سليمان طوني فرنجية وميشال المر في الخارج، منبهة إلى حقائق جديدة فرضت نفسها على اللعبة السياسية، بل وقبل ذلك على التوازن الاجتماعي، ومن ثم على دور لبنان في ضوء علاقاته بسوريا التي باتت جزءاً لا يتجزأ من ذلك كله.
لقد انتهى زمن “الجبابرة” و”الأقطاب” الذين كانوا يختزلون “الشعب” بأشخاصهم (وهم في العادة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، إلا إلى أصابع اليدين)… وغالباً ما كانوا يختزلون عبر الطوائف والمناطق أو الجهات أو المحافظات والعكس بالعكس، فالشمال “رجلان” أو ثلاثة في أحسن الحالات (بحكم الثنائية الطائفية) والجبل أربعة (بحكم الثنائية السياسية داخل الثنائية الطائفية) وبيروت ثلاثة أو أربعة، والجنوب اثنان أو ثلاثة أما البقاع فليس أكثر من اثنين…
وانتهى “الزمن الإضافي” الذي أعطته الحرب للأحزاب السياسية بعدما طوعتها فأعادتها إلى الحظيرة الطائفية صاغرة، واستولدت إلى جانبها مجموعة من التجمعات المذهبية التهمت كل ما هو “سياسي”، تاركة للأقوى أن يفرض حضوره بغض النظر عن منبته و”عراقة محتده” و”سلامة تمثيله” المتوارث كابراً عن كابر لبعض فئات الشعب أو جهات البلاد.
إنه زمن آخر، له رجال آخرون، بمنطق آخر وقواعد أخرى للعبة سياسية مختلفة، بين “فنونها” الانتخابات، ولكن الانتخابات ليست هي “المقرر” أو المصدر الأصلي لركائزها المستجدة، وبينها مؤسسات الجمهورية الحائرة بين المراتب: هل هي الأولى أو الثانية أو “العدد صفر”، أو التجريبي.
لذا فليس للانتخابات قضية، ولا هي بذاتها القضية، ولكنها مجرد تجسيد إضافي – وشبه مكتمل – لحجم التحولات ودلالاتها.
ولذا فعلى بكركي، والقيادات “القديمة” والتاريخية أن تراجع نفسها، وأن تتنبه إلى حقائق الحياة الجديدة، وإلا تاهت، أو تركت لغيرها من الأكثر تنبهاً أو أكثر وعياً أو أكثر قوة وقدرة أن يقرروا المصير، وليس فقط تفاصيل اللعبة السياسية وبينها الانتخابات.
… ونقاش آخر هو ذلك الذي يقوم على المفاضلة بين القديم والجديد ومن هو الأفضل للبنان ما بعد الطائف والمرجعيات الطائفية.