غريبة هي حكاية بيروت وسياسييها مع واشنطن وإدارتها المتعثرة،
فالعلاقة بين “مركز الكون” والعاصمة المهمّشة والتي لا تزال تعيش على أمجداد ماضيها كعزيز قوم ذلك، تتذبذب باستمرار بين وهدة الإهمال المطلق وذروة الاهتمام الاستثنائي وغير المبرر!
في الأيام القليلة الماضية شهدنا فصلاً جديداً من هذه المسرحية العبثية المعادة: تطالب بيروت بحصتها من الاهتمام، فتطلب منها واشنطن “مبادرة” لتحريك الجمهود، مع إيماءة إلى ضرورة تمييز نفسها (عن دمشق) وتوكيد “استقلالية قرارها” بشأن مسارها التفاوضي مع إسرائيل…
وتنهش الحيرة والتردد والخوف والريبة صدور أهل الحكم في بيروت: إن هي فعلت ما يراد منها أن تفعل خرجت خاسرة على الجبهات الثلاث.. إذ سوف تهتز علاقتها مع دمشق، ولن تربح مزيداً من “العطف” أو التأييد العملي من واشنطن، ثم أنها سوف تتلقى لطمة جديدة من إسحق رابين، كما وقع أثر التصريح – المبادرة لرئيس الجمهورية.
فتل أبيب لا تريد أكثر من التباعد بين بيروت ودمشق، لعلها من بعد تنجح في استفرادها، كما استفردت من قبل القيادة الفلسطينية والنظام الأردني،
وواشنطن لن ترفض عرضاً بالتفرد، بل هي ستتلقفه عبر تل أبيب، وتمضي به إلى النهاية فترعاه مبررة تصرفها بأنه يندرج ضمن موجبات رعايتها للعملية السلمية… فهي وسيط نزيه وشريط كامل إذا ما احتاجها الفرقاء المتخاصمون في هذا الموقع، أما إذا ضبطتهم فجأة في غرفة النوم فلن تفعل أكثر من أخذ الصورة التذكارية معهم تخليداً للزفاف السعيد.
بيروت قلقة على المفاوضات ومسارها فيها، لكنها لا تظهر الكثير من القلق من نتائج الانتخابات الأميركية والتحولات التي توحي بها.
أما تل أبيب فتهتم أكثر بما يمكن أن ينقص من أسباب دعمها إذا ما استشرى هذا التيار الجمهوري المقتر وأصر على إعادة النظر ببرنامج المساعدات الخارجية،
وصحيح أن زيارة رابين لواشنطن كانت مقررة من قبل، لكن استهدافاتها عدلت على وجه السرعة ليمكن استيعاب نتائج الانتخابات، والتعامل مع “الفائز” بالمنطق إياه: ننتظر منك أكثر مما نحصل عليه من خصمك المحلي، فأنت أكثر وعياً بأهمية إسرائيل كحليف استراتيجي، وبالتماثل إلى حد التطابق بين تجربتكم هنا وتجربتنا نحو في إسرائيل: بناء دولة ديموقراطية متحضرة وسط صحراء من التخلف والبداوة والقمع المتستر باسم الدين!
وبيروت تظهر من القلق على “الجمود” في مسارها، بينما المصدر الحقيقي للقلق هو منزلق التفرد، وسط “المغريات” الهائلة التي تقدم من أجل ارتكاب “الخطيئة الأصلية”.
في مجال تعزيز اليقين بأن التفرد مهلكة، يمكن إيراد بعض النماذج البسيطة مما يعاني منه ويتعرض له “المتفردون”:
*في غزة بني هاشم الفلسطينية يعيش رجل الحل المنفرد تحت لافتة الحكم الذاتي في عزلة مضنية، تحف به المخاوف والهواجس والإحساس بأنفاس الموت تطوقه. يقول لبعض من تبقى من خلانه: ليس الجحيم أسوأ مما نحن فيه! في البدء كانت “حماس”، اليوم “الجهاد الإسلامي”، غداً الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة وربما “فتح” ذاتها”،
هو الآن “وحده”، لا يزور ولا يزار، يخاف من كل الناس، فإذا تحرك فوسط مئات من شرطته المكلفين حراسة الاحتلال، وهو يصرخ فلا يجيبه أحد إلا المحتل، ويجيبه مؤنباً: جئنا بك لتحمينا فإذا أنت بحاجة إلى حمايتنا!
ويصارح عرفات صديقه الحميم الجديد شيمون بيريز: كانت صورتي مقدسة وكأنها لنبي، اليوم يصرخ الفلسطينيون في وجهي ويهينونني علناً ويمزقون صوري ويحرقونها وأنتم تطالبونني بأكثر مما فعلت، ماذا لدي بعد؟!
في أي حال، فغزة في الليل غيرها في النهار: وحدهم المقاومون والمعارضون والمعترضون يستطيعون التجول فيها.
وشيمون بيريز لا يجد غير التهديد بقتل هؤلاء، وتبرير القتل سلفاً بأنه ضرورة لا مفر منها لإنقاذ اتفاق أوسلو وموقعيه.
أما في عمان فثمة حالة طوارئ غير معلنة، وهي تتحول ليلاً إلى مدينة محاصرة. فقوى النظام تمسك بقلبها وأطرافها وتنتشر الآليات عند محاور الطرق وحول المقار الرسمية بينما “المخابرات” توالي إنذاراتها للمعارضين بأنها لن ترحمهم إذا ما حاولوا التحرك.
وفي الأخبار ما يفيد إلى أن وزير الداخلية قد وجه إنذاراً مباشراً إلى الناطق الرسمي باسم “حماس” بأن “النظام سيسحق كل من لا يعجبه الحال”، وإن إبراهيم غوشة رد عليه بالقول: لا أظنكم تستطيعون تحمل نتائج هذا الكلام.
ولأن الوقيعة هي السلام الأمضى، فأهل النظام عادوا إلى استنفار عصبية “الأردنيين” في وجه “الفلسطينيين”، وبالمقابل فهم لا يفتأون يرددون على مسامع الفلسطينيين: لن نسمح بتعريض أمن الأردن للخطر، ومن لا يعجبه الحال فليذهب إلى “دولته” عند عرفات!
وفي البدء، بدا وكأن “الحل المنفرد” قابل للحياة وأن معارضيه نفر يمثل أقلية ضئيلة في غزة أساساً، ثم في المملكة.
مع الأيام كشفت الأحداث والوقائع اليومية حقيقة مختلفة: الحل المنفرد لا يعيش إلا بحراسة حراب المحتل والمتعاونين معه. والأكثرية الساحقة تعارض وتقاوم بل وتقاتل ضد الحل المنفرد.. وهي تجد نفسها مضطرة لأن تقاتل أطراف الحل المنفرد، جميعاً، لأنها حين تحاول التصدي للمحتل الإسرائيلي تجد في مواجهتها صاحب التوقيع الفلسطيني (أو الأردني)، والعكس صحيح.
وقد تكون المعارضة، حتى الساعة، أضعف من أن تستطيع النزول إلى الشارع في معركة حاسمة، ولكن “الحل المنفرد” يترنح ويتهاوى حتى وهو في حراسة الدبابات والمخابرات و”الدول المانحة”.