بمعزل عن الملاحظات على الشكل والحشد والنفقات، فليس من لبناني إلا ويتمنى نجاح الوفد الرئاسي اللجب في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف – المطالب الذي ذهب من أجلها إلى نيويورك.
حتى من يقول بأن النتائج، كائنة ما كانت، لم تكن بحاجة إلى مثل هذا “الجيش” من الرؤساء والسفراء والزوجات والأصهار والأنجال والمرافقين، لا يتمنى الفشل للرئيس الياس الهراوي ومن معه… فالفشل للبنان حتى لو افترضنا أن النجاح – لو تم – لمن حققه.
“الحركة بركة”: شعار الرحلة الرئاسية. ولقد تمت “الحركة” وبقي على اللبنانيين انتظار “البركة” أو البركات، إن في ما خص تنفيذ القرار 425، أو في ما يتصل بإقامة الصندوق الدولي لإعمار لبنان. والرئيس الهراوي يقول: “لا أعتبر أنني حصلت على شيء”خارج دائرة الوعود والتعهد بالمساعدة، ودقته هنا قد تصدم من كان يتوقع تدفق الخيرات وهرولة العسكر الإسرائيلي مندحراً من الجنوب، ولكنها أفضل من “الهوبرة” التي تعود عليها المواطن من أي مسؤول تسعده حياته بلقاء ما مع مسؤول أميركي ماز
“وطني لم يمت” قال الرئيس الهراوي مخاطباً العالم من على منبر الأمم المتحدة، لكن هذا الوطن المثخن بجراح الحرب ما زال بعيداً عن العافية، ولن يستطيع النهوض من تحت الركام واستئناف دوره عربياً، ودولياً، إلا إذا مد القادرون أيديهم بالعون إليه.
انتهى “اللقاء التاريخي” إذن بلجنة مشتركة ألح في طلبها لبنان فكان له ما طلب، لكي تدرس همومه فتقول فيها كلمة واشنطن التي تتحوّل إلى أمر للتنفيذ، دولياً، كما يحلو لبعض اللبنانيين أن يتصوروا. وزير الخارجية يؤكد (وقد أكد قبل السفر) إن لبنان سيحصل على ضمانات خطية حول سيادته واستقلاله، وإن الرئيس الأميركي بوش ووزير خارجيته بيكر وافقا على مضمون القرار 425 بحرفيتهز
لكن الرئيس الأميركي ليس واحداً من ساستنا المحترفين ليظهر “لبنانياً” مع الرئيس الهراوي، مسايرة له ومجاملة “لغربية” اللبنانيين وانقلابهم من الأوروبية (الفرنسية) إلى التأمرك، في حين كان قبل 24 ساعة فقط يتبنى إسرائيل والصهيونية إلى حد تهديد الأمم المتحدة بإلغائها إذا هي لم “تلحس” قرارها التاريخي حول اعتبار الصهيونية موازية للعنصرية.
ومع التقدير لكفاءة الوفد الرئاسي وفصاحته في عرض الهموم اللبنانية فإن واشنطن لن تبدل في سياستها ولن تغير في تحالفاتها نتيجة تأثيرها باحتشاد “الجمهورية الثانية” كلها في جناح الرئيس الأميركي في فندق وولدورف أستوريا الفخم في نيويورك.
لكن المصادفات لا تجيء دائماً بما يلائم أو يخدم الرئاسات وتوجهاتها وتمنياتها،
وما من شك فإن بين ما نغص على الوفد الرئاسي وملحقاته متعة الوجود في دائرة الضوء الكونية، نيويورك، في هذه اللحظات، وأفسد الاستمتاع بالتكريم، بعض الهنات الهينات التي تكشف هشاشة الوضع في لبنان الذي لم يمت والذي يجسد إرادة الحياة،
من تلك “الهنات” التظاهرة النقالة التي ينظمها أنصار ميشال عون ويطاردون بها الوفد الرئاسي حيثما ذهب، حتى إلى داخل “سيدة لبنان” للجالية المارونية في نيويورك!
ومنها أيضاً الحادث المروع الذي وقع في معاصر الشوف فكشف معظم ما أراد خطاب نيويورك أن يزينه من معطيات الوضع السائد في لبنان، دور دولته وحكومتها المركزية، وأهلية جيشها في حفظ الأمن وطي صفحة الحرب الأهلية بكل سمومها الطائفية وأحقادها المختزنة.
فلا يمكن فصل الجريمة عن حالة التعبئة التي تسهم في النفخ في نارها مراجع دينية ودكاكين سياسية، والتي يزيد من تفاقمها بقاء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ترديها بغير حلول، ومنها قضية المهجرين وهي العنوان المتفجر ولكنها إحدى صفحات الكتاب الدموي الذي لم يُغلق بعد.
وأخطر ما في هذه التعبئة الطائفية المموّهة سياسياً إنها تعد للتفجير في وجه الحكم والحكومة، كالتفاق على الحل ووعد السلام الوطني المعلق… في انتظار الصندوق الدولي لأعمار لبنانز
وهي تعبئة مزورة في أي حال، تتقصد التعامل مع جانب واحد من قضية المهجرين، إذ لا ترى منهم إلا مهجري الجبل، في حين إن هؤلاء لا يشكلون أكثر من ربع مجموع المهجرين،
والتزوير مقصود ليمكن استثماره سياسياً في معركة التشهير بالحل العربي عبر حكم الطائف وأهل “الجمهورية الثانية”، وبالتحديد منهم الرئيس الياس الهراوي.
وسفاح معاصر الشوف لا يختلف في استهدافاته كثيراً عن ذلك الذي تعرّض بالشتم والاهانة لرئيس بلاده في أرض غريبة ولم يلزمه “إيمانه” بمراعاة حرمة كنيسته في نيويورك.
الحركة بركة..
وغداً يعود الوفد الرئاسي محملاً بالمغانم، وفي طليعتها إن كل عضو فيه قد حظي بصورة شبه مقدسة سيعلقها في صدر صالة الاستقبال ببيته وكأنها درع التثبيت وشهادة حسن السلوك الأبدية…
وسيكون لدى العائدين كلام كثير عن التعهدات والضمانات والوعود، وعن درجة الاهتمام والترحيب والاحترام، وعن مستوى التعاطف والإشفاق والاستعداد للمساعدة.
لكن الامتحان الحقيقي ينتظرهم حيث تركوه: في العاصمة المدمرة للبلد الذي ما زال يسكنه هاجس الحرب التي لن ترحل نهائياً طالما ظل الاحتلال الإسرائيلي جاثماً على صدره.
و”البرك” التي لا تقرّب موعد تنفيذ القرار 425 لا تنفع كثيراً في موعد السلام الوطني في هذا البلد الجريح – برغم الرحلة الرئاسية – ما يزال في انتظار القرار الحاسم بقيامته، في الداخل كما في الخارج.