ليس أكثر تعقيداً، على الصعيد العربي، من العلاقة السياسية مع مصر.
فهذه العلاقة ضرورية، أبداً، لأي تنظيم أو حزب أو حركة أو نظام حكم، ولأي سياسي عموماً، بغض النظر عن عواطف الطرف العربي المعني تجاه حاكم مصر أو النظام السائد فيها.
ذلك إن التوجه نحو مصر هو المدخل الشرعي إلى أهداف النضال العربي في الحرية والاشتراكية والوحدة، حتى لو كان حاكمهالا ملكاً أو إمبراطوراً أو فرعوناً!
فمصر أكبر، عادة، من حاكمها..
ولهذا يبقى – حتى بعد الخلاف مع حاكم مصر – هامش عريض لعلاقة مستقلة وضرورية مع مصر ذاتها.
وبمقدار ما يشتد الخلاف مع حاكم مصر تتزايد أهمية الحفاظ على هذا الهامش تأميناً لاستمرار وتنامي العلاقة الأبقى من علاقة حاكم بحاكم أو نظام بنظام: علاقة القطر المعني بمصر، مصر العروبة والثورة الاشتراكية حتى لو لم ترتفع في سمائها رايات خفاقة لهذه الشعارات، بل وحتى لو رفع حاكمها شعارات مضادة تماماً..
فمصر الأكبر من حاكمها أكبر أيضاً من المختلف معها.
وأفظع خطأ يرتكبه سياسي عربي هو أن يحول خلافه مع الحاكم المصري إلى خلاف مع مصر واختلاف عنها.
ولقد شهد تاريخنا الحديث نماذج لسياسيين عرب ضلوا الطريق إلى مصر مرتين فدفعوا وألزمونا أن ندفع ثمن أخطائهم مضاعفاً:
فلقد دخلوها عن طريق العلاقة المباشرة مع حاكمها، وأصروا على هذا “المستوى العالمي” للعلاقة، فرفضوا أياتصال بجماهير مصر وشعبها، ثم لما اختلفوا مع حاكمها خرجوا منها كلها وتحولوا إلى شعب مصر يتهمونه في عروبته وفي كرامته الوطنية.
مثل هذا المسلك الخاطئ لا بد أن يصب الماء في طاحونة الحاكم المصري، فإن كان ثورياً صادق العروبة أفاد منه لإدانة السياسي العربي المقصود وإسقاطه، بتصوير مسلكته خروجاً على العروبة كلها وليس اختلافاً مع حاكم مصر، وأن كان غير ثوري وظف هذا المسلك لتنفير شعب مصر من العرب والعروبة.
إن المسافة بين الحاكم في مصر ومصر ذاتها ضيقة للغاية عندما ينظر إليها المرء من الخارج، ويتعامل معها من الخارج.
أما إذا أمكن رؤية هذه المسافة من الداخل، والتعامل معها من الداخل فسيكون الأمرمختلفاً جداً، وتصبح المقاييس موضوعية ومنطقية ونابعة من الواقع ذاته وليس من حساسيات المقصود بالاقتحام!
وعلى سبيل المثال، فإن على الفلسطيني الذي يطلب من مصر موقفاً مسانداً والتزاماً بقضيته أن يثبت لمصر – وبالملموس – أنه “مصري” في مساندتها ودعمها والتسليم بزعامتها والالتزام بقضيتها، بغض النظر عن رأيه الحقيقي بحاكمها.
إن عليه أن يثبت لها، وبالملموس ، أنه قادم للتعامل مع مصر، وحريص على دور مصر، ومسلم بحق مصر في اختيار قيادتها سواء أكان مؤيداً لهذه القيادة أم مختلفاً معها، بل خصوصاً إذا كان مختلفاً معها.
فمصر الأكبر من حاكمها ومن المختلف معها، شديدة الحساسية في موضوع قدرتها على الاختيار وتأكيد انتمائها.
لذا فهي تعبر مجادلتها في شخص حاكمها انتقاصاً من كرامتها الوطنية ومحاولة لفرض وصاية عليها هي، المسؤولة عن الوطن العربي كله، وربما عن العالم الثالث أيضاً.
أما مجادلتها في عروبتها فتخرجها عن طورها تماماً إذ ترى فيها محاولة لإلغاء وجودها ذاته، وليس فقط دورها ومسؤولياتها.
فمصر هي مصر، حتى لو حكمها فاروق…:
هذا إذا ظللنا نرى مصر ولم نقصر بصرنا وفكرنا على فاروق وموبقاته. ففي مثل هذه الحالة نخسر مصر ولا نربح فاروق.
وتستمر خسارتنا حتى عندما تخلع مصر فاروقها لأننا رأيناه ولم نرها، واحترمناه بمنحه شرف خصومتنا بينما أهملناها هي فلم نعطها لا الحب ولا الكراهية ولا أي شيء غير تقزيمها بحجم حاكمها المرفوض منها أساساً.
وفي فهم أو عدم فهم هذه المسألة تكمن قوة أو أزمة أي مسؤول عربي في علاقته مع مصر.