صباح الخير من قصر العدل… الحمد لله أن قد بقي للعدل عنوان!
ولعل التسمية تتضمن من الإساءة أكثر من التكريم، فهم بذ لك قد جعلوا “العدل” واحداً من الزعماء أو الأثرياء، يملك مثلهم قصراُ يتخذه مقر إقامة ليؤكد انفصاله عن “الدهماء” وساكني بالبيوت الطبيعية ، ناهيك بحزام البؤس.
صباح الخير من قصر العدل، وقد “تسلل” إليه، عبر شجيرات الياسمين والورد الصيفي، الظامئون إلى العدل، “أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم”، أبرياء أنقياء كقطر الندى، لهم عطر النرجس وشذى زهر الليمون، تعمر صدورهم بالإيمان ولكنهم يبحثون عن دورهم وعن مكانهم في حلم الوطن الذيم لم يهجرهم ولم يهجروه، برغم صنوف التعديات والقهر والامتهان التي نالت منهم عبر الحرب، والتي تفاقمت بعدما أعلنت النهاية “الرسمية” للحرب – الدهر – والبداية “الرسمية” لقيام ما يسمى “الجمهورية الثانية”.
صباح الخير، ورموز المجتمع المدني، بكافة قطاعاته المتشوقة إلى السلام، يحتضنون “السفير” ويواكبونها على محكمة المطبوعات ليؤكدوا عميق تعلقهم بالحرية، وتشوقهم إلى “دولة” يسود فيها القانون، ويستعيد القضاء فيها اعتباره واستقلاليته فلا تضطهده النزات السياسية ولا تسخره الأغراض الخاصة لأصحاب النفوذ والمال والاتباطات الخارجية، وجلهم مرتكب ومتجاوز وآثم ومحصن داخل “دولته” الخاصة ومحاط بمن يطوع له القانون ليأخذ ما يعتبره حقه على حساب الثلاثة أو الأربعة ملايين لبناني، والله أعلم!
صباح الخير والقاضي يمارس حقه الطبيعي، برغم الحشد الذي جاء لينتصر مع العدل للحق على الافتراء والبغي، و”المتهم” يحاول أن يدفع عن نفسه “تهمة” لم يتصور – لفظاعتها – أن توجه إليه، وبرغم ذلك يبقى على تماسكه واثقاً من أن أي صاحب ضمير لا يمكن أن يقبلها فكيف أن يتخذها مستنداً للإدانة، فكيف إذا استوطنت الوطنية الضمير، وانتعت الذاكرة بأمجاد أيام الحصار التي تتبع معظم الحاكمين الآن أخبارها عبر الإذاعة أو شاشات التلفزيون!
صباح الخير، والكل في المحكمة وأمامها، يكافحون من أجل استحضار الدولة ويجهرون بالولاء لها وباستعدادهم للقبول بحكم “القانون” ولو ظالماً، بشرط أن يصدر بعد المحاكمة لا قبلها.
لكن الدولة بلا عنوان، مضيعة بين “أصحاب الدولة”، لا تعرف لها هدفاً ولا سبيلاً إلى التجسد… وكيف يجسد “الدولة” المستفيد من غيابها، أو من ضعفها، والذي ما صار “كبيراً” إلا على حسابها وبلحمها ذاته؟!
صباح الخير يا “أصحاب الدولة” وقد عوضتمونا بحضوركم الثقيل الوطأة غيابها ومعها القانون والعدالة وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم إلا بكفاءاتهم ومؤهلاتهم العلمية والخلقية،
… وبين الصباح، حيث يحاول العدل أن يلتصق بالقضية، والمساء حيث يتم الطلاق بين الحكم وبين القضية والعدل والإنصاف، يتهاوى مشروع الدولة ولا يتبقى أمام الناس إلا “أصحاب الدولة” الذين يأخذون لأنفسهم ما لها وبحجة إنهم إنما ينصفون طوائفهم ولا يهم – بالتالي – إن وقع الظلم على المواطنين.
كيف تقوم الدولة إذا ما ألغي المواطن؟!
كيف يتحقق العدل إذا ما أخرس القاضي ومنع المحامي من الدفاع وأطلق العنان “للمدعي العام” فتصدى “للحملات المسعورة” يدينها ويجرم مطلقيها والمتسببين فيها لمجرد إنهم شكوا من القمع ومن الإرهاب ومن الحكم المسبق عليهم بالخرس وإلا صنفوا أعداء “لصاحب الدولة” الذي يختزل الدولة في شخصه وشركاته ومحاسيبه وأغراضه التي تكاد تغطي مجالات الإنتاج والربح جميعاً؟!
هل صاحب مجالات الإنتاج والربح جميعاً؟!
هل صاحب الدولة بديل من الدولة؟!
وهل القانون ما يحمي مصالحه فقط، فإذا ما ألزم بتبريرها وإثبات علاقتها بالصالح العام ارتد على المجادلين فاتهمهم ليس فقط في مستوى إدراكهم بل كذلك في وطنيتهم وصولاً إلى اتهامهم بالتخابر مع العدو الإسرائيلي؟!
لا تتسق الوطنية مع الإرهاب بالتزكية ولا مع تنزيه الذات عبر إدانة الشعب كله، أو عبر نعي الأمة وافتراض سقوطها المجاني أمام العدو،
ولا يمكن أن يبني دولة القانون ذلك الذي يحشو الإدارة بأتباعه، ومحققي رغباته والحريصين على مكاسبه وزيادة ملياراته على حساب الكادحين وأصحاب الحقوق والمتطلعين إلى تحقيق إنسانيتهم عبر الاجتهاد والمناقشة والاعتراض وادعاء الحق بمناقشة الحاكم؟!
في قصر العدل احتشد صباحاً أولئك الطامحون إلى بناء الدولة وسيادة القانون، وكان يحف بهم ولو من بعيد ذلك الشوق الشعبي العظيم إلى كسر قيود المذهبية والطائفية واحترام كرامة الإنسان بالتعامل مع قدراته ومؤهلاته وليس مع كل ما يلغي قيمته كمثل الاستزلام والارتهان والتبعية.
في قصر العدل، مع الصباح، كان الكل للوطن،
وفي المقر الرئاسي مساء كان “الثلاثة” يعلنون اتفاقهم على اقتسام المغانم بإلغاء الشعب والدولة، أي إلغاء الوطن.
في قصر العدل، مع الصباح، كان المواطن متهماً في شرف انتمائه، وفي المقر الرئاسي مساء كان “الشركاء الثلاثة” يختزلون مصلحة الوطن في تكريس زعاماتهم ويختصرون المواطنين في اتباعهم الذين لم يألفوا تلك العادة “الديموقراطية” السمجة المسماة “المناقشة” ناهيك بحق الاعتراض.
في قصر العدل كانت رموز المجتمع المدني تتغاضى عن العيوب والمثالب والتشوهات وتعلن إيمانها بالدولة وتتصاغر لكي تؤكد إنها تحت القانون لا فوقه،
أما في المقر الرئاسي، مساء، فكان “الحكم الثلاثي” يكرس أطرافه الهة لا هي تناقش ولا هي تسمح بمناقشتها، رغبتها قرار ومزاجها حكم مبرم لا يقبل الاستئناف أو التمييز، حتى من الوزراء.
كيف السبيل إلى تسوية إذا كان المجتمع المدني يسعى إلى دولة في حين يرفض “أصحاب الدولة” التنازل عن “حقوقهم” وعن “امتيازاتهم” وعن “أغراضهم” بما يمكن من الفصل بين الخاص والعام، فيستولد المواطن وحقوقه جميعاً وأبسطها حقه في أن يقول وفي أن يعترض وفي أن يختلف مع حاكمه وقد أخطأ؟!
لقد ذهبت “السفير” إلى المحكمة، من أجل قيام الدولة،
ولكن “أصحاب الدولة” يعملون بلا ملل أو كلل على إلغاء ما تيسر بناؤه من معالم الدولة،
فكيف السبيل إلى التلاقي بين النقيضين؟!
كيف السبيل إلى المصالحة بين السيف وبين الجرح، بين رصاص الغدر وبين المغدور، وبين عارض الدولة في مناقصة علنية وبين المضحي بمطامحه الشخصية من أجل دولة تقوم على المساواة بين مواطنيها؟!
وكيف السبيل إلى التكامل والتواصل بين أولئك الذين عملوا كمرشدين، مقنعين أو مكشوفي الوجوه والتاريخ، لدى العدو الإسرائيلي خلال الغزو وحصار بيروت، وبين الذين كانوا يحاولون حماية شرفهم الوطني عبر تصليب صمود العاصمة – الأميرة والذين يرون أنفسهم الآن عرضة لغضب حكم الطائف وأهل الطائف يعاقبون على مقاومتهم للمحتل ويتهمون في شرفهم القومي، فينبذون توكيداً لوطنية “أصحاب الدولة” ومقتسمي الغنائم فيها؟!
أنت تبني وهم يهدمون،
أنت تكافح من أجل الصح وهم يحاولون إغراقك في بحر من الغلط بلا ضفاف،
أنت تسعى إلى اللقمة الحلال، بعرق جبينك، وهم يدفعون لكي ينتفي الحلال ولكي يسود “الحرام”، فإذا الناس فاسدون جميعاً، بعضهم راش والبعض الآخر مرتش، والكل خارج من الدولة وعليها يحاول أن يسخرها لأغراض “صاحب الدولة”، أي الثلاثة الذين باسم الطوائف ينقضون فيقنصون المغانم.
… ثم يحاضرون فيك جميعاً عن ضرورة إلغاء الطائفية السياسية، كتلك المومس التي أفصح ما تكون حين تدافع عن الفضيلة.
أين موقع القاضي في هكذا خريطة؟!
ومن هو “النائب العام”، وبأي حق يوجه التهمة إلى الشرفاء فيطعن في وطنيتهم، ثم يطالبهم بأن يثبتوا إيمانهم بدولة القانون؟!
الغلط فوق. الصح تحت. ولا بد من تصحيح لهذه المعادلة، فلا يظل المدان هو المدعي، ولا يظل المحق في موقع المتهم المطالب بإثبات براءته.
القضاء بخير، لكن القرار بيد “أصحاب الدولة”، ولا يمكن أن يقول القضاء كلمة العدالة إلا إذا قامت الدولة فنفضت عن عنقها طوق التبعية لأصحاب المال والنفوذ وباسم الطوائف، مغبونة كانت أم خائفة.
الطائفية تلغي الدولة. وطريف أن يكون غلاة المطالبين بإلغائها هم أعظم المستفيدين من سيادتها.
كيف بالطائفيين تبنى دولة المواطن والقانون؟!
دولة وقانون معاً؟!
هذا كثير علينا. هذا أبعد من الحلم.
لذا احتشد الجمهور في قصر العدل يجأر بالشكوى وينتصر للمظلوم.
لكن المهم هي الخطوة التالية خارج قصر العدل وخارج السجن المصلحي أو الارتهان الطائفي،
وهذه هي الخطوة التالية المرتجاة لكي يستعيد المواطن إنسانيته والوطن دولته، بدل أن يظل الاثنان في موقع العبد التابع لمن يملك أكثر وبالتالي فله الحق في أن يأخذ أكثر، بل وفي أن يأخذ كل شيء.
كيف السبيل إلى حماية مشروع الدولة من أصحاب الدولة؟!
كي السبيل إلى استيلاد المواطن من رحم الطائفة التي يختزلها رجل فرد، بكل نزواته وأغراضه وأحقاده الصغيرة؟
ذلك هو السؤال الذي يجب العثور على جواب حاسم له.. خارج قصر العدل.