طلال سلمان

على الطريق بين اللجنة العربية والنزق الفرنسي

احتاجت اللجنة السداسية العريبة إلى ستة أسابيع من البحث والتنقيب والاستقصاء والاستماع لكي تكتشف إن في لبنان قضية سياسية تتصل بطبيعة النظام القائم وصيغة السلطة فيه وشكل الممارسة.
وفي ضوء هذا الاكتشاف الباهر أمكن للجنة أن تتعاطى مع مسألة وقف اطلاق النار باعتبارها المدخل الطبيعي لفتح باب النقاش في القضية: النظام ووجوه الخلل فيه وأخطرها اعتبار الهيمنة على السلطة ضمانة لفئة على حساب مجموع الشعب بما يلغي “الوطن” و”المواطن”.
حتى أبناء الأسر العربية المالكة وجدوا في هذا الوضع ظلماً لا يطاق واحتقاراً لإنسانية الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، بمسلميهم والمسيحيين، وبينهم أغلبية الموارنة من أبناء “الأطراف” أو “الملحقات”،
صحيح إن أبناء هذه الأسر العربية المالكة كانوا ، وما زالوا، يشعرون بصلة قربى مع أبناء عائلات الفئة الحاكمة في لبنان، ولكنهم أخذوا عليهم المبالغة في احتكار السلطة وعدم مراعاة الشكل إلى حد استفزاز “رعاياهم” وإحراج الموالين والقابلين منهم حتى إخراجهم.
بهذا المعنى فإن جهد اللجنة العربية ، حتى هذه اللحظة، إنما ينصب على حماية أبناء الفئة الحاكمة في لبنان، وتحسين صورتهم، والتمكين لاستمرارهم في سدة الحكم، ولو أدى ذلك إلى التضحية ببعض رموز الرعونة والحمق ومدعي البطولات الفارغة على حساب حق بلادهم في الحياة.
وفي التقدير العام، فإن اللجنة العربية للمساعي الحميدة إنما تناضل لإنقاذ الطائفة المارونية من حماقة بعض قياداتها التي أعماها الحقد والشهوة إلى احتكار السلطة فاندفعت بها في طريق الانتحار الجماعي… ولا قضية!
بالمقابل ترتفع أصوات فرنسية خرقاء بتحريض الطائفة العظمى لنحر ذاتها ونحر لبنان والمنطقة بأسرها، مستخدمة لغة إمبراطورية بائدة عفا عليها الزمن وتجاوزها العالم كله بما فيه شعب فرنسا الذي توقفت طموحاته عند حدود الشبع والصمود في وجه محاولات الهيمنة الأميركية على اقتصاده واحتمالات تقدمه.
وصحيح إن الفرنسيين عموماً لم يشتهروا بالحكمة، وإن الطابع الغالب على تصرفهم هو مزيج من الانفعال العاطفي والهوس والتهور والنزق، لكن دولتهم – بكبارها ورجالاتها – كانت تتصرف بقدر من الرصانة سمح لها بدور ما، محدود، ولكنه مقبول في لبنان وفي المنطقة،
أما اليوم فالمؤسف إن رأس الدولة الفرنسية يورط نفسه وبلاده، ويورط اللبنانيين جميعاً، في مواقف تصب الزيت على نار الفتنة وتضعف احتمالات الوصول بلبنان إلى شاطئ الأمان،
لقد تحدث الرئيس الفرنسي عما يحدث في لبنان بمنطق “الدولة الحامية” لطائفة بالذات، مذكراً بأن فرنسا الاستعمارية هي المتسببة الأولى في ابتداع هذا النظام الأشوه الذي قسّم اللبنانيين إلى أبناء فئة حاكمة ممتازة وإلى رعايا هم أقرب إلى موقع العبد أو القن في النظام الإقطاعي القديم.
وكان الرئيس الفرنسي صادقاً حين نسب التعاطف مع هذه الأقلية إلى الغريزة، فليس لها ما يفسرها بالعقل او حتى بالمصلحة.
وإنها لمفارقة أن يتحدث ابن الأسرة الحاكمة في الكويت عن ضرورة إصلاح النظام في لبنان، في اتجاه المساواة بين أبنائه، في حين يتصدى الجمهوري والاشتراكي الفرنسي للدفاع عن التشوهات التي تكاد تذهب بالكيان ذاته في ظل تعنت الفئة الحاكمة المستند إلى مثل هذه المواقف الهوجاء تدعمها من وراء البحار.
وإنها لمفارقة أخرى أن تدعي فرنسا إنها إنما تدعم جهد اللجنة العربية للمساعي الحميدة، وإنها ساعدتها على الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في حين إن مواقف بعض قياداتها السياسية والاعلامية لا تؤدي إلا إلى زيادة النار اشتعالاً بما ينسف احتمالات الوصول إلى هدنة تفتح الباب للبحث في حل للأزمة السياسية الخانقة.
فاللجنة العربية وضعت يدها أخيراً على مكمن الداء: الخلل والتشوه في النظام السياسي، وحله لا يكون إلا بالاصلاح ، وهو إصلاح لا بد منه للنظام الموروث عن حقبة الاستعمار الفرنسي وحقبة الحماية الأجنبية للأقليات، وهي الذريعة التي باسمها استعبدت المنطقة كلها، بالأكثرية فيها والأقلية.
وموقف اللجنة العربية التي لا يشي تركيبها بأي ثورية أو بأي تطرف أو تعصب أو أي قدر من العداء للغرب من شأنه أن يغلب تيار الاعتدال وصوت العقل في “المنطقة الشرقية”،
في حين إن الموقف الفرنسي النزق من شأنه أن يدفع رمز الرعونة والحمق إلى الاندفاع في مغامرته المجنونة حتى… الانتحار،
وليس عذراً مقبولاً أن تمرر هذه المواقف الفرنسية شبه الصليبية تحت حجة المزايدات والصراع الانتخابي والمنافسات بين الديغوليين والاشتراكيين أو بين اليمين واليسار،
فالواضح إن اليمين واليسار في فرنسا يغامران بمصير اللبنانيين ويتسببان في إلحاق الأذى بحياتهم وأرزاقهم بأكثر مما تفعله القذائف والصواريخ والقنابل الحارقة.
وإذا كان العماد عون يرقص من غير دف، فكيف به الآن وثمة دفان فرنسيان تنقر على أحدهما المعارضة في حين ينقر على الآخر رجال الحكم في الجمهورية الخامسة التي تعد للاحتفال بالذكرى المئتين لثورة 14 تموز الخالدة بشعاراتها “الاخاء والحرية والمساواة”،
… ومطلب الأقصى تطرفاً في لبنان لا يصل إلى مثل هذه المطامح التي تبدو، بعد، بعيدة عن واقع الحياة السياسية في ظل النظام الذي اصطنعته فرنسا الاستعمارية للبنانيين بوصفهم نوعين أقلية ممتازة تنوب عنها في حكم أقليات من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو أقل.
والعماد ميشال عون فهم الرسالة الفرنسية على حقيقتها، وهكذا توجه أخيراً إلى اللبنانيين بمجموعهم يخاطبهم بوصفه “المحرر” الذي سيوصلهم إلى الاخاء والحرية والمساواة بعد تحريرهم من ربقة الاحتلال السوري!
فلقد انتبه العماد، أخيراً، أو لعله نبّه، إلى حقيقة إن له “أشقاء وشركاء” في الوطن، فأوقف مؤقتاً مدافعه التي رجمتهم بقذائفها لمدة ثلاثة أسابيع متصلة، ودعاهم إلى طاولة مستديرة،
لكن المشالكة إن العماد قد نسف البيت ذاته ودمر محتوياته فلم تبق فيه طاولة صالحة لهذا الغرض، ثم إنه نسف الجسور جميعاً، ولغم الطرقات بحيث بات يستحيل على الآخرين الوصول إلى ملجأه الآمن في القصر الجمهوري الذي يحتله بغير وجه حق.
ثم إن العماد قد سمم الجو كله، وأطلق العنان للغرائز، وأيقظ ما كان نائماً من الفتن، بحيث يستحيل الحوار، وكيف يكون حوار سوي بين محرر وخانع يستسلم للاحتلال؟! وكيف يتسق حوار بين “سيد” يعطي نفسه كل السلطة ملجرد إنه ينتمي إلى الطائفة الحاكمة وبين رعايا مشبوهين في ولائهم ومتهمين في وطنيتهم لمجرد إنهم يميزون بين العدو الإسرائيلي والأشقاء العرب، وأقربهم إلينا وألصقهم بنا سوريا التي لن يستطيع العماد شطبها عن الخريطة؟!
لقد نطقت اللجنة العربية أخيراً، فقالت أقل ما ينبغي أن يقال،
وهي مطالبة بأن تتابع جهدها، وأن تترجم هذا الذي وعدت به،
ومفهوم سلفاً إن العماد سيحول مدافعه الآن في اتجاه اللجنة، وقد يتهمها بالانحياز، فلعله يستشعر إنها قد ألغت مرسوم تثبيته رئيساً للجمهورية التي دمر منها ما كان تبقى بعد العهد الكائبي الذي بدأ ببشير واستمر مع أمين الجميل ولما ينته.
لكن اللجنة العربية أقوى من “الجنرال الصغير” الذي بعث إلى الرئيس حافظ الأسد ذات يوم بمن يقول له ما مفاده: “اعتبرني ضابطاً صغيراً في جيشك، واجعلني رئيساً فأعطيك فوق ما تطلب في لبنان”،
واللجنة العربية أقوى من فرنسا ميتران وخصومه، بدليل إن الكل يعود فيتلطى وراءها،
اللجنة العربية هي طريق الخلاص، حتى باعتراف “الجبهة اللبنانية” ومن معها،
لقد رسم الأجنبي (والفرنسي تحديداً) ذات يوم حدود لبنان واصطنع له جمهورية كاريكاتورية قائمة على التمييز ذي الطابع العنصري بما يفوق جنوب أفريقيا،
وضمن ظروف معلومة فلقد سلم العرب واللبنانيون بهذا القدر الاستعماري الغاشم، وحاولوا من بعد تصحيح الأشوه وتقويم المعوج، فكانت النتيجة ما نرى ويرى العالم،
أفلا يمكن مرة أن يرسم العرب صورة لبنان وأن يقرروا مستقبله، باعتباره ابناً من أبنائهم مصيره من مصيرهم له عليهم حق الرعاية والحماية والضمان، بفئاته جميعاً، بدل أن تجيئهم الصورة من الخارج فيسلمون بها صاغرين؟!
… خصوصاً وإن “العرب” المعنيين يستظلون العلم الأميركي، ولا يمكن اتهامهم بالتطرف أو بالتعصب أو بالشيوعية الملحدة؟!
… وإنهم يستشعرون صلة قربى مع الطائفة العظمى في لبنان ويتخذونها قدوة، وإن كانوا الآن بدأوا يخافون “جنون” بعض قيادتها ذات النزعة الانتحارية؟!
أين العقلاء والحريصون على مصالح الطائفة العظمى ومستقبلها، بل وعلى مستقبل “المسيحيين في الشرق”؟!
أين بكركي، وأين القيادات المارونية الطبيعية؟! أين النواب والسياسيون والمفكرون والكتاب وأصحاب الرأي يوقفون هذا الجنون. ليمكن بعد ذلك الحوار حول المستقبل، مستقبل اللبنانيين جميعاً وفي قلب أمتهم لا خارجها؟
نفترض إن اللجنة العربية تنتظر ، مثل اللبنانيين جميعاً والسوريين وسائر العرب، صوت العقلز
فعسانا نسمعه قريباً، بعدما سمعنا طويلاً صوت آلة الموت، بمصادرها المحلية والأجنبية،
وفي بيروت الباقية سيكون الحل، وبمساعدة دمشق القريبة وليس بمساعدة باريس البعيدة جداً في الجغرافيا كما في التاريخ.

Exit mobile version