طلال سلمان

على الطريق بين الخطر الأكبر والخطر الأصغر!

فجأة، وخلافاً للظواهر، لم يعد للهمسات الدبلوماسية وللأحاديث السياسية غير موضوع واحد لا غير: إن التسوية آتية وأقرب مما تتصورون.
البعض يكاد يحدد الموعد – وكأنه داهم – باليوم والساعة، و بعض آخر يفضل التمهل حتى نهاية السنة الجارية، وبعض ثالث يجرم أن سنة 1994 ستكون بداية عصر “السلام” العربي – الإسرائيلي!
كأنما جولة وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر في المنطقة قد حسمت بحسر ساحر ما كان مستحيلاً حله، أو ما كان معلقاً في انتظار ما هو غير متوقع أو خارج دائرة الحساب،
كأن تلك الجولة غيرت طبيعة إسرائيل، أو غيرت العرب جذرياً فقرروا – فجأة – التخلي عن حقوقهم في أرضهم، واستسلموا بغير قيد أو شرط للإدارة الأميركية الجديدة، التي لم تعاملهم بكثير من الود لإخلال الانتخابات ولا بعد أن تربع كلينتون على عرش.. الكون!
في ضوء هذا التقدير، لا بد من إعادة قراءة الوقائع جميعاً وفق منطق بوليسي صارم مؤداه: إن كل شيء يجري وفق خطة مرسومة ويندرج في سياق واحد يفضي إلى “السلام” الإسرائيلي تحت المظلة الأميركية مع حفظ الحد الأدنى من ماء الوجه للعرب!
ويقال في ما يقال أن العرض الأميركي الجديد هو أسخى من أن ترفضه إسرائيل، وأكثر فجاجة وقسوة من أن يستطيع رفضه العرب.
يقال أيضاً أن تضخيم دور “المتطرفين” وتعظيمه بحيث يكاد يغطي الكرة الأرضية كلها، بين مقتضيات السيناريو الأميركي الجديد،
فالسخاء الأميركي مع إسرائيل، في السلاح والمساعدات الاقتصادية والدعم السياسي الشامل وتأمين التفوق المطلق لها على العرب مجتمعين، يستخدم كعنصر جذب لها إلى “التسوية”،
وعلى حد تعبير بعض الصحف الأوروبية فإن كلينتون قد منح إسحق رابين قطعة عظيمة من اللحم (العربي!!) ربما تكون أكثر من طاقة معدته على هضمها، ليحرجه فينتزع منه “الموافقة” الجديدة!! على عرض التسوية المقدم معدلاً بالشروط الإسرائيلية الإضافية،
ويقال، هنا، إن اطمئنان الأميركيين والإسرائيليين معاً إلى احتدام الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني (فتح وحماس) في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين، ثم تنمية جرثومة الشك بين الفلسطينيين (مجتمعين) وسائر العرب، يشكل عنصر إغراء ممتازاً للإسرائيلي بأنه قد يستطيع الآن “قنص” تسوية بشروطه ربما تتعذر في المستقبل.
على أن الجانب الآخر للصورة هو المقلق وهو الذي يحتاج إلى توضيح قاطع من قبل أطراف “عربية” رسمية و”إسلامية” عديدة،
إذ يقال، في ما يقال، إن هذا التضخيم الإعلامي المدروس لدور الإسلاميين هو حصيلة جهد مشترك أميركي – إسرائيلي – “عربي”، لتمرير الصفقة وتبريرها.. “فالإسلامي” يمكن أن يكون “الخطر الأكبر” الذي يهرب منه الطرف العربي المعني إلى “الخطر الأصغر” ممثلاً بالإسرائيلي، وتحت الرعاية الأميركية دائماً،
وكما هو صدام حسين “فزاعة” الجزيرة والخليج، بخاصة، والعبء الثقيل على الكاهل العربي عامة، والذي أتقن توظيف “استمراره” لتمزيق العراق وتحطيم التضامن العربي ولو بحده الأدنى،
.. فإن “الإسلاميين” هم “الفزاعة” الأخرى التي يمكن استخدامها كذريعة لتبرير “اتفاق الإذعان” الجديد.. وبهذا يصير الأكثر تشدداً في الرفض (اللفظي على الأقل) هو أداة الإخضاع لكل من كانت له “شروطه” للقبول بتسوية مفروضة ما كان ليقبلها في ظروف “عادية”.
ويقال إن مصر هي أرض التجربة الباهظة الأكلاف هذه، إذ يلوح بخطر الحرب الأهلية فيها، واستطراداً بخطر سيطرة “الإسلاميين” عليها، وهم في مصر أنواع وأشتات وتيارات واتجاهات متصادمة، بينها السعودي والأفغاني والأميركي والإيراني وربما الإسرائيلي، وفي هذا “التهديد” ما يكفي لاستخضاع الرافضين أو المطالبين بتعديل شروط التسوية التي قد تكون قاتلة.
أي أن دماء المصريين، وكذا دماء الفلسطينيين في أرضهم المحتلة، ودماء الجزائريين، ودماء العراق أرضاً وشعباً، تهدر من أجل تمرير التسوية، بل وربما من أجل جعلها “مطلباً” وكأنها “أهون الشرين” لأن بديلها هو جحيم الحرب الأهلية التي قد تمتد إلى داخل كل بيت عربي بل إلى كل عربي إذ تقسمه نصفين مقتتلين (بين انتمائه القومي ودينه)، وهكذا تستقر إسرائيل قوة مهيمنة مطلقة داخل النفس العربية، وليس فقط فوق المحتل من الأرض العربية.
وليس إلا بعد فوات الأوان سيتبين للعرب أن التسوية كانت أبهظ كلفة بما لا يقاس من الحروب.. بما في ذلك الخاسرة منها!

Exit mobile version