طلال سلمان

على الطريق بين البطريرك والجنرال

نجح البطريرك نصر الله صفير ، على امتداد السنوات الماضية، في تقديم نفسه كرجل سلام وكمسؤول يغلب على طبعه ومسلكه الاعتدال والرصانة ومحاولة التوفيق بين مقتضيات الموقع (الطائفي، بالضرورة) ومتطلبات الوحدة الوطنية في بلد هش التركيب والتوازنات كلبنان،
ولقد اشتدت الحاجة إلى اعتدال البطريرك الماروني في ظل تفاقم التطرف الذي لجأ إليه العديد من القيادات السياسية للطائفة كطريق إلى الزعامة، وهو ما قلدهم فيه بعض رموز التطرف في الطوائف الأخرى… فالطائفية تستسقي الطائفية، و”الطائفيون” كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً (مع الاعتذار للتشبيه).
ثم أضيف التعاطف إلى الحاجة، عندما وصل “المتطرفون” أو أتباعهم من مشوهي الحرب الأهلية في اعتداءاتهم على الكرامات والحقوق والقيم إلى حد انتهاك حرمة بكركي والإساءة إلى من يخاطبونها بلقب “سيدنا” بوصفه “أمير كنيستهم”.
لقد أحس كل اللبنانيين، يومها، وعلى اختلاف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم، بأنهم قد أهينوا مباشرة، وكانت التظاهرات العفوية التي انتظم فيها آلاف اللبنانيين وقصدت إلى الديمان لتعلن تضامنها مع البطريرك صفير واستنكارها للاعتداء على شخصه ومنصبه ودوره ونهجه، بمثابة إعادة اعتبار إلى المواطن اللبناني ذاته عن طريق إظهار تمسكه بالقيم التقليدية لمجتمعه الذي يريده واحداً.
على إن هؤلاء اللبنانيين إياهم يقفون الآن حيارى وهم يسمعون البطريرك صفير يقول كلاماً يغلب عليه طابع التطرف ويكاد يصل إلى حد التحريض، انطلاقاً من معارضته لمشروع إجراء الانتخابات النيابية.
وطبيعي إن من حق أي لبناني أن يعترض أو يعلن رفضه (أو تأييده) لإجراء الانتخابات، وأن يطالب بتأجيلها أو السرعة فيها، وأن يشجب أية مخالفات أو مغالطات إن في قانونها أو في الترتيبات الإدارية (بما في ذلك تقسيم الدوائر) الخاصة بها،
ومن باب أولى أن يكون للبطريرك ، بمن يثل، وبوزن موقعه، كما برصيده الشخصي حق الاعتراض وطلب الإجراء أو التعديل إلى آخر ما يراه ضمانة للوحدة الوطنية أولاً، ثم لما يعتبره “حقوقاً” لطائفته، وأخيراً لما يفترض أن يتوفر لها من مناخ الحرية والعدل والنزاهة.
لكن مواقف البطريرك المتدرجة من الاعتراض إلى الرفض تكاد تنزلق إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك، ربما بدافع من عدم ثقته في الحكم، أو نتيجة لتحريض داخلي أو خارجي، أو لخلل في الاتصال والتواصل بينه وبين مراكز القرار، أو برغبة في تجنب المزايدة عليه عن يميمنه أو عن يساره (إن كان لمثل موقعه يسار، أو إن كان قد تبقى ثمة يسار)..
وحديثه يوم أمس الأول عن خطر “المثالثة الفعلية” بديلاً من “المناصفة الإسمية” يشكل تحولاً لا يجوز المرور به مر الكرام.
ثم إن محاولات توريط البطريرك الماروني في مواقف أعنف وأقسى، بذريعة تزعيمه على “المسيحيين التائهين الذين لم يتبق لهم قائد أو قيادة”، غدت مكشوفة، لاسيما وإن “أبطالها” هم ذاتهم “أبطال” الاعتداء عليه في خريف العام 1989.
إن البعض يزين للبطريرك أن يلعب دور الوريث لكميل شمعون وبيار الجميل وبشير الجميل وسائر “التاريخيين”،
والبعض الآخر يحاول إغراءه بأن “يرد” على الجنرال عون بأن يكون “بديله”، فيسقتطب الجمهور المسيحي الذي غدا الآن بلا رأس،
وثمة قوى أجنبية تحاول أن تجعل بكركي رأس الرمح في المشروع المضاد لاتفاق الطائف، وبحجة الدفاع عن اتفاق الطائف.
وها هم الآن يحاولون تحويل بكركي إلى “قصر شعب” جديد، والبطريرك إلى “جنرال” في ثوب كهنوتي، فيباشرون بتوجيه تظاهرات الطلبة إلى ذلك “البيت اللبناني” لكي يحاصروه ويسترهنوه بهتافاتهم التي تستدر المزيد من الخطأ.
والأمل أن يبقى البطريرك الماروني كما كان، رجل اعتدال وحكمة ووحدة، لأن ذلك ما يحتاجه لبنان… أما المتطرفون فلم يقدموا للبنانيين إلا الدم والخراب والإفلاس والخواء الشامل.

Exit mobile version