الاضطراب هو سيد الموقف في المفاوضات العربية – الإسرائيلية مع الانطلاق الدراماتيكي المتعثر لجولتها التاسعة في واشنطن.
حتى “الخبطة المسرحية” التي لجأ إليها وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر حين “استدعى” وفود الطرفين جميعاً فأجلسهم إلى طاولته، أمس الأول، وتصور معهم، بدت عبر نتائجها المباشرة وكأنها دليل إضافي على الاضطراب العام أكثر مما هي إعلان عن مبادرة جديدة أو عن “تفعيل” للدور الأميركي المتلبد والمثقل بالضمانات والضمانات المضادة.
الاضطراب يشمل الجميع: العرب، والفلسطينيين منهم بالذات، والإسرائيليين، والأميركيين (أما الروس فلم يعد ليهزهم شيء بعدما سقطوا سهواً من تاريخ العقد الأيخر من القرن العشرين)…
لكأنما واشنطن دعت لأن عليها، أو لأن مصلحتها، أن تدعو لاستئناف المفاوضات، فلا تبدو الإدارة الجديدة أقل مبادرة وأقل نفوذاً وأقل اهتماماً بهذه المنطقة الحيوية جداً للمصالح الأميركية، من “سلفها الصالح” جورج بوش،
… ولقد لبى العرب، بعد تردد، لأنهم لا يملكون خياراً أفضل من هذا العرض البائس المتمثل بمفاوضات ظلت عقيمة بعد سنة ونصف السنة من حوار الطرشان،
أما الحكومة الإسرائيلية التي جاءت باسم “السلام” على أنقاض “حكومة الرفض” الشاميرية، فهي ملزمة بأن تلبي الدعوة، خصوصاً وقد “قبضت” ثمن التلبية مقدماً “شراكة استراتيجية” مع الحليف الأميركي تضمن لها الدنيا والآخرة، ثم إنها تعرف أن الوضع العربي لا يستطيع – حتى لو أراد – أن يأخذ منها إلا الحد الأدنى الذي تقرره وتحسمه من الدين الأميركي عليها.
ومفهوم أن يقول من كان ممتنعاً أنه عدل عن استنكافه ورجع إلى واشنطن لأنه تلقى ضمانات منها بأن الجو سيكون مختلفاً، وبأنها ستعطيه بعض ما يرضيه (من غير أن تغضب أو تستفز أو تحرج الطرف الآخر).
لكن الضمانات المتوازنة والمتوازية لطرفين بينهما عداء تاريخي قد تجمد الوضع القائم لبعض الوقت، لكنها لا توفر تسوية ولا تفتح باباً لحل ما زال يستعصي على التصور أو التحديد الدقيق.
والجمود، هنا، يبعث على مزيد من الاضطراب، داخل كل وفد، وداخل كل بلد معني، وكذلك في العلاقات الأميركية – العربية والأميركية – الإسرائيلية،
فالحساب مع هذه الجولة يبدأ منذ اليوم الأول: ها قد جئنا فماذا سنأخذ؟! ماذا سنقول للذين ودعونا باللعنات والأكفان؟! أين الوعود، أقله بالنسبة لمعالجة مسألة المقتلعين من أرضهم الفلسطينية؟!
وبالنسبة إلى منظمة التحرير فإن “تعاظم” وجودها المشخصن على طاولة المفاوضات يكبلها ويخصم من رصيدها ويضعها في مواجهة شعبها مباشرة، وهكذا يتحول إلى فخ بدل أن يكون نصراً سياسياً أو دبلوماسياً.
أما بالنسبة إلى إسحق رابين فإن “تقدم” المفاوضات، وهي لا يمكن أن تتقدم إلا بتنازل ما من طرفه يضعه في قلب المأزق السياسي داخلياً، في حين أن عدم تقدمها سيحرجه في الداخل والخارج، أي مع غلاة المتطرفين من خصومه كما مع الحليف الأميركي الكبير الذي اختاره فرس رهانه.
إنها الجولة الأولى. إنها الجولة الأدق والأصعب.
وشمعون بيريز يقول إنه سيعطي الفلسطينيين جدول أعمال لا خريطة،
والأميركيون يقولون إنه يكفيهم أن ينتزعوا من الأطراف الضطربة مجرد إعلان نوايا، هذا العام، على أن يتم وضع الإطار العملي للتسوية العتيدة في العام المقبل، ثم يبدأ التحديد الدقيق لكل “حل منفرد” على حدة.
أما العرب فلا بد أن ينتظروا الفلسطينيين،
والفلسطينيون لا يستطيعون أن يظلوا معلقين هكذا لفترة طويلة، فلن تنفعهم مقاعدهم إلى طاولة المفاوضات في واشنطن بديلاً من أرضهم التي ينهش الاحتلال الإسرائيلي المزيد من مساحاتها مع كل شمس بحيث لا يتبقى لهم مكان يعودون إليه مع “النجاح” الدبلوماسي الباهر!
طبعاً لا بد من الاستدراك: فالأميركي لم يقل كلنته الأخيرة علناً بعد.
ولا بد أن كريستوفر يخفي بعض الأرانب في كمه،
ولعل قنابل الدخان التي ترمى حالياً ضرورة للتمهيد للانسحاب من المواقف الصعبة بأقل الخسائر الممكنة،
… وإلا كان الأميركي كمن يتآمر على الوفود التي يستضيفها في واشنطن ليصطنع بفشلهم وفوداً مفاوضة جديدة عن العرب (وبالذات الفلسطينيين) كما عن الإسرائيليين،
ولعل النظام المصري الأكثر اضطراباً في مواجهة مثل هذا الاحتمال!
خصوصاً وإنه مثل معظم الأنظمة يخاف أكثر ما يخاف الأرانب الأميركية!