حزينة هي رنة الصوت الممتلئ حماسة، وقاتمة هي اللوحة التي ترسمها المشاهدات برغم أن إدوار سعيد يشع تفاؤلاً وإيماناً بالذات والأرض والإنسان الفلسطيني.
وعبر انسياب الشجن وتغلغله في الخلايا المتخمة بأثقال زمن الخيبة، لخص المفكر الكبير الذي أرهف المنفى وطنيته واعتزازه بهويته الوضع في الأرض المحتلة بكلمات صارمة في قسوتها: الكل محبط، والانتفاضة في تراجع والمفاوضات باتت مصدراً جديداً لليأس وافتقاد الجدارة.
وفي التفاصيل التي تناوب على سردها من يتابع الوضع في الأرض المحتلة بدقة: إن الفلسطينيين قد فقدوا الأمل في الأميركيين، وبالتالي فالستمرار في التفاوض مع العدو الإسرائيلي سيأخذ منهم بعض ما تبقى لهم ولن يعيد إليهم شيئاً مما أخذه منهم قهراً، والوفد المفاوض خسر الرصيد الذي كان له مع بداية المفاوضات، وقيادة المنظمة لم تعد موضع إجماع، والمنافسات بين “الوفد” وبين القيادات المتعددة للداخل والخارج، وفي المنظمة وعلى هامشها تكاد تذهب بالجميع، والأخطر إنها تكاد تذهب بالقضية.
رويت وقائع مغلقة، وتم الاستشهاد بأرقام مثيرة، وبعد دوي للطبول كاد يصم الآذان دارت العيون المفتوحة على الفراغ، بالتناول، على الوجوه الكئيبة تستنخي أصحابها أن يخرقوا الخرس ولو بالبكاء:
“- عليك أن تختار، إدوار… أما أن تحدثنا أو أن تعزف على البيانو، أي نغمة من بحر الأحزان ستسمعنا أيها المقاتل خلف خطوط العدو وبكفاءة لم نعد نملك ما يعادلها هنا ونحن نفر من أمامه…”.
وطبيعي أن نفر، طالما إننا لا نملك البديل!!
*في بيروت، يحاول وزير خارجية مصر أن يطلق – عبر كلامه المرصوف بعناية – موجهة من التفاؤل: “المهم ألا نقطع المفاوضات” وألا نتسبب في قطعها. علينا أن نبقى فيها، مهما كلف الأمر، وأن نحاول مرة واثنتين وثلاثاً، حتى ننجح في تعديل الموقف وبتديل الشروط. تذكروا كم عانت مصر وكم قاست خلال المفاوضات. لكننا لم نيأس، وظللنا نكرر المحاولات، نستنفر الصداقات، نوظف التطورات حتى نجحنا في استخلاص أرضنا وحقوقنا”.
تحاول أن تناقش فتكتشف أن المحامي الشاطر الذي قرر أن يربح الدعوى حتى لو خسر القضية، قد استعد لأسئلتك المحتملة بأجوبة مسبوكة جيداً:”… وماذا سنربح لو قطعنا المفاوضات؟! هيا أجبني:… هل تملك خياراً آخر؟!”
-ولكن الأرض تضيع، في هذه الأثناء، بحيث يخشى ألا يبقى ما يفاوض الفلسطينيون عليه… وماذا يفيد عندئذ لو “نجحت” المفاوضات؟!
لكن عمرو موسى عنيد: – المهم استمرار المفاوضات… فهي لو نجحت فلسوف تضمن إعادة النقاش، والتفاوض، حول ما تم تعديله خلال مسيرتها الطويلة.
تسأل، تسأل، تسأل، ويكرج عمرو موسى الأجوبة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب، فإذا ما استشعر قدراً من الحرج، أو أحس بأن حلقة الكلام تضيق مقتربة من البديهيات، جبهك بالسؤال المربك:
“- هذا هو الواقع، ونحن نتحدث عنه وفي ضوء معطياته، فإن لم يعجبك هذا المنطق فعليك أن تقدم الحل البديل… هل لديك بديل؟!”
*وفي بيروت أيضاً تعلو نبرة فارس بويز بتلميحات جديدة لم تكن تصدر عنه من قبل، بينما عمرو موسى يطلق بالوناته المشبعة بغاز التفاؤل!
يقول وزير خارجية لبنان المحتلة أرضه: – نسح الكثير عن تطور إيجابي في الموقف الأميركي، لكننا لم نلمس بعد هذه الإيجابية عملياً. إنهم يتحدثون بعناوين طيبة، لكننان لم نتلق ما يطمئن حول المضمون… لعلهم يسوقون جولة كريستوفر!
يضيف فارس بويز: – قد لا نجد مبرراً للمشاركة في الجولة الحادية عشرة، إذا ظل العدو الإسرائيلي يضغط علينا لتجاهل قضيتنا الخاصة والقفز من فوق واقع أنه يحتل أرضنا، ليناقشنا في الصورة العتيدة للتسوية الشاملة!
-وهل تملك بديلاً عن المفاوضات؟!
فارس بويز محام شاطر هو الآخر، ويتقن فن الحديث، ويجتهد لربح الدعوى بالاعتماد على كفاءته الحرفية، لكنه مكوي بالنار وليس مرتاحاً كما عمرو موسى، وبالتالي فهو معني باستيلاد البديل وليس بالتدليل على استحالته.
مع ذلك فإن البديل عنده غير جاهز، وإن كان المضمر في تكتيكه إنه إنما يراهن على تحرك أميركي يخرج المفاوضات، من مأزقها… مع وعيه المسبق بأن أيدي الأميركي ليست طليقة وإن حركته ليست حرة، هذا إذا ما سلمنا جدلاً برغبته في التحرك أصلاً!
البديل، البديل، البديل…
كيف يفاوض من يسلم سلفاً بأنه لا يملك بديلاً من المفاوضات؟!
كيف تنجح مفاوضات أحد أطرافها هائل القوة وطليق اليدين وحقل المناورة أمامه مفتوح بغير حدود، بينما الأطراف الأخرى تفاوض وظهرها إلى الجدار؟!
… و”الخبراء” في الولايات المتحدة لا يجدون ما يتحدثون عنه إلا الإهمال العربي لضرورة إقامة “لوبي” مناصر للقضايا العربية،
لكن بعضهم يستدرك فيقول إن الهيئات أو المنظمات أو “اللوبيات” العربية في الولايات المتحدة باتت عناوينها كثيرة، والخلافات في ما بين أركانها أكثر، لكن فاعليتها أقل مما كان يأمل منها دعاتها وأصحاب المبادرة إلى تأسيسها.
… ثم إن الحركة الصهيونية سبقتنا بمئات السنين، وهي كانت حاضرة وقوية وفعالة حتى خلال “حرب الاستقلال” وداخل “الحرب الأهلية الأميركية” بشكل أو بآخر،
مثل هذا البديل بعيد المنال، إذن، ولا مجال للرهان عليه،
ماذا بعد؟!
يدهمك في لحظات الإحساس بأن ثمة تياراً يدفع بك دفعاً إلى لجة اليأس والقنوط. يريدك أن تقتنع أن المائتي مليون عربي هم “لا شيئ”. فإذا لمعت بارقة أمل، كالانتفاضة، سارع إلى إطفائها: أولاد!! هم شجعان بلا شك، لكن شجاعتهم تذهب سدى… ثم إن قياداتهم تتاجر بهم!!
… وإذا ما جاء ذكر المقاومة هتف بك كمن لسعته أفعى: ولماذا المقاومة طالما إنك تفاوض؟! ما دمت قررت المفاوضة فالمقاومة شغب على قرارك الأول، تهدد مصداقيتك، وقد تسهم في نسف المفاوضة؟!
وإذا ما طغى حديث الصمود والامتناع عن التوقيع والتفريط سارع إلى الادعاء: هذا قد يؤخر ولكنه ليس حلاً، وقد يستدر العقاب
البديل، البديل، البديل؟!
ولكن البديل من أو عن ماذا؟!
وهل الذي نحن فيه حل أو مشكلة حتى يشترط في البديل أن تكون له مواصفات قياسية؟!
إن “البديل الراهن”، أي ما نحن فيه، ومن ضمنه المفاوضات، لا يفعل غير معالجة مشكلة كبيرة قائمة بمشكلة أكبر وأخر وأكثر تعقيداً تذهب بالمحاضر والمستقبل.
فاصنع بديلك بيدك، لأن أحداً لن يمنحك ذلك البديل – الحل المنشود!
ثم إن البديل لن يأتي من الخارج، ولن يأتي بالتأكيد معلباً وجاهزاً ولا يحتاج إلا إلى من يتكرم باستقباله،
حتى دور الخارج تحدده قوة الداخل وتماسك الداخل،
وبين شروط القوة في الداخل وحدة الرأي فيه، والوحدة تشمل ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي،
ولو كانت مثل هذه القوة متوفرة، عربياً، لأمكن لأي طفل أن “يفحم” المحامي الشاطر و”الحريف” عمرو موسى برد بسيط: “إن شعب فيتنام، على سبيل المثال لا الحصر، قد خاض أعظم بطولات مقاومته بينما وفده يفاوض الأميركيين بقيادة صهيوني (هنري كيسنجر) في باريس… فليس مستهجناً أو خارج دائرة التفاوض أن تعزز المقاومة ضد الاحتلال بينما وفودنا تفاوض الإسرائيليين بقيادة أميركي في واشنطن.
فعندها قد يستقيم سياق المفاوضات، ولو بثمن غال، نعرف سلفاً إننا سندفعه، في كل أرض عربية محتلة، من لبنان إلى غزة والضفة والقدس الشريف إلى الجولان الذي لم يهتز إيمان أهله بهويتهم القومية برغم المحن والأهوال وأصناف القهر التي مارسها ضدهم المحتل الإسرائيلي.
البديل في الداخل. الداخل. الداخل. الداخل. وكل ما هو خارج خارج.