صباح الخير، ثانية، عبر بيروت – المساء التي ارتضتني وبعض زملائي في “السفير” ضيوفاً عليها ومعنا افتتاحيتي على “الطريق”.
لقد تصرم ليل الحرب والقهر والموت والعسف والدمار والعيون المسكونة بالذهر في الملاجئ، وجاء الصباح ندياً يرش بالعطر وجه بيروت – الأميرة ويناديها لتستعيد حيويتها ولغتها ودورها المفتقد والذي لم تعوضه كل العواصم.
وها هي بيروت تنصب قامتها رمحاً عربياً وتجعله راية للحرية وتحتضن قضية الوطن وتحريره وحقوق أهله فيه.
فلبنان الذي تنادى فتلاقى في دار الحرية، دار نقابة الصحافة، في بيروت يوم أمس، أعلن بالصوت الحي إيمان هذا الشعب العميق بالديموقراطية، بحقه في أن يعرف وفي أن يختلف مع الحاكم وفي أن ينبه إلى الخطأ ويعمل على تقويمه.
صباح الحق والحب والجمال، صباح الورد والنرجس والياسمين وعيون الصبايا العاشقات تنادي أميرتها بيروت وتمسح جراحها – الأوسمة، وتلاغيها وتواسيها عبر الدمار الذي لن يكون غير ذكريات سوداء سرعان ما يمحوها جهد الشباب المعافى المحصن بالحرية وبإرادته الأقوى من الحرب ومن تجار الحروب.
لقد انتصر لبنان فصان حريته من خطر القرارات الخاطئة والتصرفات غير المسؤولة، وحمى وحدته لتكون درعه الواقية في مواجهة أطماع العدو الإسرائيلي وخططه التوسعية على حساب لبنان وسائر العرب.
وعلى امتداد اليومين الماضيين وعبر معركة حماية الحرية التي اتخذت من التضامن مع “السفير” شعاراً لها، بدأت الحياة السياسية في لبنان تستعيد روحها ووعيها، وأطلقت – كما الوليد المطل على الحياة – صرخة هي زغرودة فرح بأن عصر الموت والخواء والإحباط في طريقه إلى الانطفاء.
حتى تلك القوى السياسية والهيئات النقابية والتنظيمات الشعبية والتجمعات الطالية والنخب المثقفة التي كانت تائهة هائمة في الفراغ والعبثية وافتقاد الجدوى، والتي كانت تتصرف وكأنها قد هرمت وشاخت وإنها إلى زوال، تلاقت من حول قضية الحرية ووجدت فيها أكسير التجدد والعودة إلى الحياة.
إن الصحافة بخير، إن قضية الحرية بخير، إذن فلبنان بألف خير.
إن القضاء بخير. إن روح الاعتراض ومجابهة الغلط بخير. إذن فلبنان بألف خير،
إن مجلس النواب قد وجد لنفسه قضية توحد شتاته وتوفر معياراً صحياً للفرز السياسي وإعادة بناء التكتلات النيابية على قواعد سليمة تتجاوز الطوائف والمذاهب والجهوية، بما يؤهله ليكون حصناً للديموقراطية وضمانة للمارسة السلطة في اتجاه بناء لبنان الديموقراطي العربي.
كذلك فقد ولد عبر هذه المعركة المفروضة علينا قسراً “مجلس الوزراء” كمؤسسة سياسية، وا ختفى شبح “مجلس الإدارة” الذي كان يلقي بظله القاتم على “دار الحكم” فيثير قلق الناس جميعاً الذين أرادوا – وبصدق – للحكم أن ينجح فينجز ما يتحرق لبنان شوقاً إلى إنجازه على طريق إعادة البناء واستعادة الدور المسلم به عربياً.
امتد النقاش الخصب والمسؤول إلى لبنان كله، عاصمته – القلب وجبله كله وشماله وبقاعه وجنوبه بشطريه المحرر والأسير، وشارك فيه تقريباً كل مواطن، الرجال والنساء، الأساتذة والطلاب، العمال والفلاحون، التجار والصناعيون، والفتية الغر الذين ينتظرون الفرصة ليعلنوا حضورهم وليسهموا في تحديد ملامح المستقبل الذي يطمحون أن يعوضهم أعمارهم التي التهمتها الحروب ضد الذات.
كانت قضية “السفير” والتضامن معها العنوان فحسبن أما جدول الأعمال فقد توسع ليشمل التطلعات الوطنية والهموم الحياتية جميعاً.
أطلت مع “السفير” كل تلك القضايا والموضوعات التي كرست لها “السفير” نفسها منذ صدورها قبل عشرين ربيعاً:
أطلت بيروت – المستقبل، عاصمة الفكر العربي ومركز الحركة الاقتصادية العربية، والسوق المالية العربية، وقد حماها اللبنانيون بدمائهم وبصدورهم العارية كما بجهدهم الخلاق وبحيويتهم الفائقة، وانتزعوا عبر صمودهم للحرب وللغزو الإسرائيلي وللقوى الأطلسية وللهيمنة الطائفية الحق في أن يقرروا كيف يعاد بناؤها وأين موقعهم فيها،
وأطلت الضاحية – النوارة التي دكها الظلم والإهمال واحتقار الإنسان، والتي تنتظر العدل والإنصاف وحكم “الأب الصالح” والإنماء المتوازن، والأهم: عودة الدولة والنظر إلى أهلها والمقيمين فيها كمواطنين لهم على دولتهم حقوقهم فيها ولها عليهم واجباتهم إزاءها،
وأطلت مسائل الفساد الإداري والمحاولات المتعثرة للإصلاح، بما ينصف الموظف فيعصمه من الاتهام بالرشوة وخراب الذمة وتعطيل مصالح أهله، وبشعره بأهليته وبدوره الأساسي في إعادة بناء الدولة القادرة على الإنجاز،
وأطلت أيضاً قضايا الجامعة الوطنية والتعليم عموماً وحلم توحيد المناهج المدرسية وتوفير فرص العلم لكل فتى لبناني بلا منة وبلا صدقات، بل كواجب بديهي للدولة بما يعيد الاعتبار إلى المدرسة الرسمية وإلى الشهادة اللبنانية،
… وأطلت أيضاً وأيضاً قضية القضاء وهذه الأوضاع المزرية لضمير لبنان مجسداً في قضائه. وهل أخزى من أن يكون القيمون على الإنصاف وعلى العدالة يعيشون أوضاعاً مجحفة وظالمة ولا تتسق مع مكانة القاضي ودوره الأساسي في حماية المجتمع وقيمه؟!
إن الصحافة، على همومها الثقيلة، بخير، إن القضاء، على بؤس الأوضاع التي يعيشها رجاله، بخير. إن بيروت، المنتدى الفكري والمطبعة والكتاب والشارع الوطني العربي وصحيفة الصباح تستعيد عافيتها وتعود إلى ذاتها وإلى دورها… إذن فلبنان بألف خير.
وهذه الحيوية الهائلة التي أظهرها المجتمع المدني في لبنان عبر انتفاضة التضامن مع “السفير”، تمدناً بأمل عريض بقدرتنا على بناء وطن ديمقراطي وعربي.
المهم أن تتوقف محاولة أشغال اللبنانيين بمسائل تفصيلية وجانبية، تباعد بينهم وبين الحكم بدل أن توحد الجميع على قاعدة إعادة بناء لبنان وطناً للحرية وللازدهار الاقتصادي ولكرامة الإنسان.
ومرة أخرى، فإن “السفير” لم ولن تذهب إلى “الحرب”. لقد انتهت الحروب جميعاً في لبنان إلا تلك التي ما يزال يشنها العدو الإسرائيلي، في قاعات المفاوضات، في واشنطن كما على أرض الجنوب الأسير.
ولن تستدرج “السفير” إلى “حرب” ضد القضاء. بل إنها تنظر إلى القضاء بوصفه ضمانتها كما هو ضمانة الحرية والديمقراطية والعدالة للبنانيين جميعاً.
وها هو لبنان كله يقول إن الحرية قضيته جميعاً، وإن “السفير” بعض تراثه الوطني والديموقراطي، كما هي الصحافة إجمالاً فيه.
بل ها هم إخواننا العرب يقولون بلسان زميلنا العزيز محمد جاسم الصقر في الرصيفة “القبس” الكويتية أن حرية لبنان وصحافته تعنيهم بقدر ما تعنينا وربما أكثر.
لقد تخطى التضامن مع الصحافة حدود لبنان، وهكذا كانت مانشيت “القبس” وبعرض الصفحة الأولى “استنكار عام لتعطيل صوت الذين لا صوت لهم”.
أما افتتاحية الصقر فكانت بعنوان: من أجل لبنان، لا لتعطيل “السفير”..
وليس التمسك بالخطأ شجاعة،
بل إن الشجاعة الحقيقية هي في العودة عن الخطأ، خصوصاً وإن التراجع لن يكون أمام فرد أو مؤسسة بل أمام قضية مقدسة هي بين مكونات لبنان: الحرية.
حي على الحرية،
وحي على دار الحرية العربية: بيروت – الأميرة التي لا تكون هي إلا بصحافتها، البشارة بفجر جديد يسقط ليل الهزيمة الساجي.