نحن إذن في عصر 6 حزيران،
أما عصر 5 حزيران فنكاد نبكي عليه بعدما بكينا منه مر البكاء!
فالرد على هزيمة 1967 تفجر رفضاً للاستسلام وإرادة صمود لا تقهر. ودعوة إلى قتال مفتوح ضد العدو بعد ساعات فقط من تكشف حجم الكارثة، ومطالبة حاسمة بالاندفاع قدماً على طريق التغيير الثوري وخلع القيادات التافهة والمتخاذلة، وإعادة بناء الجيوش بما يخدم الهدف القومي في التحرير.
أما الرد على 6 حزيران فما زال في ضمير الغيب، وما شهدناه حتى الآن لا يجوز اعتباره رداً بل هو أقرب إلى تقبل الهزيمة والتكيف مع منطقها ومقتضياتها وإكمال ما قصرت عنه: فمن الانهيارات إلى الانقسامات المتعاقبة إلى هذه الأنماط الجديدة من الاقتتال بلافتات عديدة يغيب عنها الوطن وتغيب عنها الاأمة، مهما كانت العبارات جزلة الفخامة!
وهكذا فإن الكل مشغول بنفسه وهمومه و”واجبات” مواجهة أخيه عن مهمات مواجهة العدو الذي وجد الطريق مفتوحاً إلى محاصرة بيروت ثم اجتياحها وإسقاط العاصمة العربية الأولى، والتغلغل في النسيج الداخلي للأمة عبر اختراقه الطوائف والمؤسسات والهيئات والأحزاب في بلد دقيق التركيب شديد الحساسية في تنوعه كلبنان.
يكفي أن نقارن بين حال اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، قبل سنة من اليوم وبين أحوالهم في هذه اللحظة، وطبيعة العلاقات السائدة بين كل طرف والآخر وبين الكل مجتمعين، ثم داخل كل طرف على حدة، لنعرف إلى أي حد غاصت سكين الهزيمة في عظامنا الهشة.
وأين ما فعلته بنا إسرائيل مما فعله ويفعله كل منا بالآخر وهل ترانا أبقينا فضلة من جهد وعزم لمواجهة نتائج الهزيمة الجديدة والرد عليها؟
إن عوامل التآكل والتفتت والانسحاق تفري لحومنا وتدفعنا بعيداً عن مواقعنا الأصلية والطبيعية، فإذا الكيانية والإقليمية والانعزالية والطائفية بل وربما العرقية تحل محل الشعور بوحدة الانتماء والمصير، وإذا بنزعة الاحتراب مع النفس ومحاربة الشقيق والصديق (باعتبارهما المنافس على الغنيمة!!) تتناميان طرداً مع تنامي الرغبة في مصالحة العدو والتسليم بشروطه مقابل… أن نعيش فحسب، وأن ننفصل عن واقعنا ومحيطنا وأن تسقط عنا أعباء النضال من أجل التغيير طموحاً إلى غد افضل.
مع هذا فلا أحد يرضى بأن يجلس مع ذاته أو مع الآخرين لمناقشة ما كان واستيعابه وتحديد برنامج جديد يفي بحاجات المرحلة الجديدة ومهماتها النضالية ووسائل توفيرها والوفاء بمستلزماتها.
لا أحد من الأنظمة والمنظمات والحكام يقبل تهمة إنه عاد إلى “الناس” إلى “الجماهير” أو حتى إلى مؤسساته هو التي تتولى تدجين الشعب لحسابه وتحضره ليقول “نعمط دائماً وأبداً وبنسبة 99,99 في المئة.
لا حوار، لا مجال لسماع رأي الآخر أو الآخرين، أما المعارضة فمحرمة تحريماً وصاحبها إلى جهنم وبئس المصير.
حتى في منظمة من طبيعة شعبية ترفع شعار الكفاح المسلح مثل حركة فتح يقفل باب الحوار والمناقشة، ويعز على القياديين والمؤسسين أن يجدوا الفرصة لمراجعة التجربة وتقييمها وتحديد المسؤوليات ومحاسبة المقصر أو المهمل أو الهارب أو المتعب (حتى لا نذكر التهم الأخطر والأكثر إيلاماً).
ويمنع مثل هذا الحق عن وجوه لا جدال ولا اختلاف حول نظافتها وإخلاصها وتفانيها في حب فلسطين والاستعداد للاستشهاد في سبيلها مثل “أبي صالح” و”أبي موسى” و”أبي خالد العملة” و”قدري” وسائر رفاقهم الذين لم يحققوا ذواتهم إلا في فتح والذين لا يجدون أنفسهم إلا في فتح ولا يعرفون لفلسطين طريقاً غير فتح.
وهكذا مع إقفال باب الحوار يصير الرصاص لغة، وتصير الصدامات المسلحة قدراً وأين؟! على بعد كيلومترات معدودة من المواقع الجديدة للاحتلال الإسرائيلي صانع هزيمة 6 حزيران!!
وليس السؤال اليوم، وبعد أن تكلمت البنادق (والمدافع!): من المحق ومن المخطئ أو لماذا كان ما كان وما سيكون، وهو الأخطر والأوجع…
السؤال: لمصلحة من يستمر إقفال باب الحوار بين رفاق التنظيم الواحد، بينما ثمة من يتفاوض – بالقهر أو بالاضطرار أو بالعجز – مع العدو الإسرائيلي؟! وثمة من ينتظر دوره في التفاوض، وثمة من يحاول توظيف كل توازنات الدنيا من أجل تحسين شروطه للتفاوض… ودائماً مع العدو شخصياً، أو مع “السيد” في البيت الأبيض بوصفه الملاذ الأخير للجميع؟!
ليس من حق أحد منا أن يقول إنه فوجئ بقدوم السادس من حزيران وعصر الهزيمة الجديدة، الساحقة الماحقة هذه المرة.
لقد عملنا لهذا اليوم بكل ما أوتينا من طاقة.
ولقد مهدنا المسرح الذي لعب فوقه بيغن وشارون وشامير (ومن خلفهم ريغان وإدارته) بمصيرنا ومستقبل أبنائنا وأجيالنا الآتية..
وكنا “الكومبارس” والهتيفة وجمهور المتفرجين.
نحن “أبطال” السادس من حزيران وصناعه الحقيقيون،
وهكذا نكون قد صنعنا هذا اليوم مرتين : مرة في الاتجاه الصحيح مؤكدين جدارة هذه الأمة بالكرامة وشرف الحياة، ومرة في الاتجاه الخطأ مؤكدين عدم جدارتنا بالنصر.
ولقد آن أن نخلو إلى نفوسنا فنحاسبها وتحاسبنا، وإلى الآخرين نحاسبتهم ويحاسبوننا.
وإلا تم الحساب من طرف واحد.
وإلا تكرست أسطورة الديموقراطية الإسرائيلية كسبب رئيسي بين أسباب نصر العدو، وتأكدت حقيقة غياب الديموقراطية وانعدامها في الوطن العربي، باعتبارها السبب الأكبر لهزائمنا المتوالية.
فالسادس من حزيران هو أحد الأسماء الحركية لليل القمع والعسف والدكتاتورية وانعدام الحوار في الوطن العربي الكبير.
وما “الاتفاق” اللبناني مع المحتل الإسرائيلي إلا أحد الأبناء الشرعيين لهذا اليوم – الدهر.
إلا إذا صنعنا المعجزة.
والمؤهلون لصنعها هم من يغلبون روح الحوار والمراجعة والمحاسبة في ما بينهم ويوفرون رصاصهم للعدو، خصوصاً وإنه قاب قوسين أو أدنى منهم جميعاً قيادات وقواعد وجماهير مظلومة تتدخل لفتصل بلحمها الحي بين المقتتلين، ولتدلهم بوعيها الحي على العدو المستريح في انتظار … السابع من حزيران!
والمعجزة في أن يكون لنا “السابع من حزيران” بعد أن خسرنا “الخامس” وبعد أن ضيعنا “السادس” وضيعنا معه الكثير الكثير!