ليس عدلاً، كذلك فليس من الحقيقة في شيء، أن يصور هذا الجدل الصاخب الدائر الآن حول “المؤتمر الدولي للسكان والتنمية”، والذي سيفتتح بعد غد (الاثنين) في القاهرة، وكأنه اشتباك بين الإسلام كدين، والمسلمين كأتباع للدين الحنيف، وبين دعاة حقوق الإنسان وحماة كرامه وحرياته الشخصية.
فلا حقوق الإنسان هي الموضوع الأصلي لهذا المؤتمرالدوري الذي يفترض به أن يعالج مسائل التنمية ومن خلالها يتطرق إلى تنظيم النسل بوصفه عامل تسريع أو إبطاء في وتيرة التنمية،
ولا الإسلام كدين هو المعني بالاعتراض على ورقة العمل المعدة، واليت أذيعت وروّج لها مجتزأة ومحرفة ربما بقصد الاستفزاز واستيلاد ردود فعل كالتي وقعت داخل مصر وعلى امتداد العالم الإسلامي…
ومضحك هو الافتراض أو التصرف وكأن مصير الإسلام كدين ، أو الالتزام بالشريعة الإسلامية، يتوقف على مناقشة تجري تحت شعار الأمم المتحدة، ووسط غالبية من غير المسلمين، وممن لا شأن لهم – بداهة – بمسائل الحلال والحرام، ولا قدرة لهم أو صلاحية على اتخاذ القرارات، حتى لو كان بين المشاركين فيه أصحاب مواقع خطيرة المسؤولية كنائب الرئيس الأميركي المعروف بصهيونيته الفاقعة آل – غور، أو السيدة التي اشتهرت بأنها تضرب “أقوى رجل في العالم” هيلاري كلينتون!
الجدل المفتعل والذي يجد لك ساعة من يزيده صخباً ورداءة، إنما يجري خارج الموضوع.
بل إن هذا الجدل البيزنطي يعكس نوعاً من التواطؤ شبه العلني بين غلاة من جرت العادة على توصيفهم “بالإسلاميين”، وبين الذين يريدون التشهير بمصر (الإسلامية – القبطية) وسائر العرب وعموم المسلمين، ودفعهم جميعاً بالحمق والتخلف ومجافاة روح العصر واستيطان السلفية ومعاداة التقدم الإنساني!
لكأن أنصار الشذوذ الجنسي والإباحية وتفكيك الأسرة (والمجتمعات) قد تحالفوا فجأة، ولأسباب غير مفهومة، مع أولئك الذين يروجون صورة ممسوخة ومزورة للإسلام والمسلمين عبر مغالاتهم الملفتة في إحلال الخرافة والبدعة والحديث المنحولوالتفسير المتعسف والأشوه محل النص القرآني ومبادئ الشريعة السمحاء،
فهؤلاء المعترضون باسم إسلاميتهم لم يسبق أن رفعوا صوتهم بالاعتراض على الاجتياح السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي لدنيا الإسلام والمسلمين،
وهؤلاء الذين يهددون اليوم من يجيء القاهرة للمشاركة في مؤتمر علمي تنظمه الأمم المتحدة، لم يحركوا أصبعاً ولم يخرجوا في تظاهرة احتجاج واحدة ضد الإذلال الإسرائيلي اليومي لشعب مصر (وسائر العرب والمسلمين)، ولم يقولوا كلمة استنكار واحدة لزيارة أركان الكيان الصهيوني للقاهرة، (وهو كيان ما زال يحتل القدس الشريف، وقد سبق له أن حاول إحراق المسجد الأقصى – الذي باركنا من حوله – كما ترك المتعصبون من حماته يرتكبون مذبحة مروعة في قلب الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهذا فقط في مجال الأماكن المقدسة)…
أما الاعتراضات الوجيهة الأخرى، من حيث المبدأ، فقد اشتركت في طرحها المراجع الدينية للمسلمين والمسيحيين، على المستوى الدولي كما في داخل مصر، إذ لم يكن موقف الفاتيكان أكثر تساهلاً (في موضوع الإجهاض مثلاً) من موقف الأزهر ومفتي الديار المصرية أو حركة “الأخوان المسلمين” أو النظام الإسلامي في إيران أو بعض رجال الدين المحترمين في لبنان وأقطار أخرى.
والبابا يوحنا بولس الثاني هو الذي قال “أخشى أن يؤدي مشروع وثيقة مؤتمر السكان إلى ميل نحو فهم الجنس بشكل فردي أكثر من اللازم، وإلى عدم الاهتمام بقيم الزواج والأسرة”.
كذلك فلقت أعلنت الكنيسة القبطية تأييدها الأزهر في اعتراضاته على بعض المسائل المطروحة للنقاش والتي تتصل بتحديد النسل والإجهاض والحرية الجنسية.
ولعل من حق المصريين، وهم أصحاب تجربة عريقة في محاولة تنظيم النسل شاركت فيها المراجع الدينية إلى جانب الدولة، أن يقولوا أنهم ليسوا بحاجة إلى دروس في هذا المجال، بل هم يحتاجون من يساعدهم في تنمية موارد بلادهم لكي يأكل الفقراء أولاً، ثم يلتفتون إلى “حقوقهم في ممارسة الجنس بحرية”!!
فيأي حال فليس مؤتمراً علمياً هو ذلك الذي يحتاج انعقاده إلى أربعة عشر ألف شرطي، مع احتمال الاستعانة بالجيش، لتأمين سلامة المشاركين فيه وتمكينهم من أن يناقشوا بحرية ورقة العمل المطروحة عليهم والتي تحمل شعار الأمم المتحدة.
فلطالما استضافت القاهرة، وغيرها من العواصم العربية، مؤتمرات دولية لموضوعات أعظم خطورة، بما لا يقاس، من الشذوذ الجنسي أو الإجهاض أو الحريات الجنسية عموماً، من دون أن تضطر الدولة إلى حشد قواها المسلحة، ومن دون أن يستشعر أي من المشاركين خطراً على حياته أو على حقه في البحث أو المناقشة والاعتراض أو الموافقة بحرية.
لكن قاهرة اليوم غير القاهرة الأمس، وضعف نظامها بسبب ارتباطاته الثقيلة مع الأميركيين كما مع الإسرائيليين، وهي ارتباطات جعلته ينافق قوى السلفية والتطرف والتخلف ويحاول استمالتهم لمواجهة القوى المعبرة عن التطلعات الوطنية إلى التحرر السياسي والاقتصادي… كل ذلك قد فتح الباب أمام هذه القوى لأن تفترض أنها شريكة أساسية في النظام وإلا فإنها بديلة.. (وهو بديل يخيف المصريين بمسلميهم وأقباطهم أكثر مما يخيف الغرب والإسرائيليين)!
المهم، أن أخطر بند في وثيقة المؤتمر، والذي كان يجب أن يتركز عليه النقاش خارج القاعة كما في داخلها، كاد يضيع وسط زحمة الجدل الصاخب والمتدفق زبداً واتهامات خرقاء وشتائم وإهانات متبادلة.
أخطر بند هو ذلك الذي يقول نصه “لا يحق لأي مجتمع ممارسة أنماط من الاستهلاك والإنتاج تقوّض قدرة مجتمعات أخرى في التطور بأسلوب مستديم الآن أو في المستقبل”!
أما أخطر ما يجب أن يستدرك لإنقاذ المؤتمر فهو أن تتركز أبحاثه على محاسبة الدول الغنية عن مسؤوليتها في تراجع التنمية في الدول الفقيرة، كما على محاسبة أنظمة الدول الفقيرة عن قصورها في تحقيق معدلات مقبولة في التنمية… خصوصاً وأنها “معيقة” للتنمية في المجال السياسي، و”محرمة” للديموقراطية، بشهادة الأربعة عشر ألف شرطي الذين يحتشدون منذ الآن في مدينة نصر لحماية المؤتمر الذي وقع عليه جرم “الإجهاض” من قبل أن ينعقد!