بعد أسبوع طويل من المداولات والمحاورات والمناقشات المضنية، اكتشف السادة البرلمانيون اللبنانيون إنهم مختلفون فعلاً، وحول الجوهري من شؤونهم، بأكثر مما يتصورون أو يصورون للآخرين؟!
ألم يبلغ بعضهم اللجنة العربية ما كان يردده في تصريحاته التبسيطية : إن لا خلاف جدياً بين اللبنانيين، وبالتحديد بين النواب منهم، وإنهم لو قدر لهم أن يتلاقوا في أجواء صحية لأمككنهم التفاهم والاتفاق في عشر دقائق لا أكثر؟!
بل إن بينهم من رأى أن الاتفاق العتيد لا يستوجب أكثر من ثلاث دقائق، يثبت بعدها للقاضي والداني إن الحرب وافدة وأسبابها خارجية وإنها حرب الآخرين على أرضنا، نحن المتفقين على كل شيء في الماضي والحاضر والمستقبل.
ها هم الآن يعودون إلى نقطة البداية،
فلا قبلات التلاقي بعد افتراق عوضت أو غصت فجوة التباعد في المواقف من الاصلاح السياسي : ضرورته ومداه ومضمونه، الذي من دونه لا تبعث دولة ولا يجيء سلام،
ولا نفعت في تمويه حقيقة الاختلاف تلك المجاملات الرقيقة والعواطف الشخصية الصادقة والحرص على الظهور بما يحمي صورة المؤسسة التشريعية كإطار وحدوي وكأداة توحيدية مؤهلة – وحدها – للنهوض بالمهمة الوطنية الجليلة التي انتدبها لها العرب (والعالم)، أي وضع الأسس الدستورية الصلبة لإعادة توحيد البلاد.
كأن الرأي، بداية، أن يمكن النواب من الكلام، أي كلام وكل كلام، كنوع من التعويض عن دهر القمع الذي غيبهم وعطل دورهم وغيب آراءهم واجتهاداتهم التي تبقى معتدلة بالقياس إلى ما تردده تظاهرات الغوغاء الطيارة في الشارع المفرغ من أهله.
واعتمد أسلوب تلاوة وثيقة الوفاق الوطني، التي أعدتها اللجنة العربية، بنداً بنداً، ثم فتح الباب أمام النواب جميعاً ليقولوا وليقترحوا ما شاءوا من التعديلات.
… وكان كل يقول، وكل يقترح، وكل يعدل بالحذف أو بالإضافة،
بعد التلاوة الأولى كان لا بد من تجميع الاقتراحات وفرزها وتصنيفها وتركيزها ليمكن بالتالي طرحها للتصويت،
وانتصبت المفاجأة الأولى في مواجهة المؤتمرين: إن الانقسام وإلى حد كبيير طائفي وأن تستر بما هو سياسي، وإن الشأن الداخلي – أي الاصلاح السياسي – هو سبب الانقسام وليس موضوع السيادة وما يتصل به.
وبسبب من الحرص على عدم إفساد جو المداولات، ومن ثم النتائج، فقد اعتمد أسلوب المشاورات، وتم نقل الموضوع من قاعة الاجتماعات إلى الكواليس والأجنحة والغرف المغلقة، لعل صوت العقل يغلب فيمكن التوفيق بين الآراء المتعارضة، ويعود الجميع إلى القاعدة وقد أنجزوا مشروعهم الموحد للاصلاح السياسي.
كان ذلك يستدعي أن يعترف الجميع إن الوفاق، ومن ثم الاصلاح، شأن سياسي خطير يفرض مواجهة الأمر الواقع وقواه المسلحة التي تنشر جواً إرهابياً يعطل الحوار ويلجئ الراغب في الهرب منه، أو من المواجهة، إلى الاستنفار الطائفي.
ولأن الطائفية تستسقي الطائفية فسرعان ما يصير الاستنفار الطائفي عاماً وشاملاً، ويفرض على العقل أن يذهب في إجازة، وعلى المعتدلين أن يصمتوا أو أن يخلوا المسرح للصقور (؟!) الذين يتقدمون الصفوف وينهمكون في بناء سد عال يحتجزون خلفه إمكانات التقدم نحو الحل المنشود!
يرفض “الموارنة” التنازل عن صلاحيات رئيس الجمهورية، فيتنادى “السنة” إلى التلاقي وتوكيد التمسك بحرفية ما أعطته وثيقة الوفاق الوطني لرئيس مجلس الوزراء،
ثم ينقسم “المسيحيون” بين “موارنة” و”كاثوليك” قبل أن تعود اتصالات الخارج فتوحدهم مجدداً تحت راية التشدد وعدم التفريط بالامتيازات – الضمانات!
الاتصالات والمصالح، بل المصالح، والشخصية منها أولاً،
وثمة بين “المتشددين” و”المتطرفين” من إذا ناقشته سارع إلى الاعتراف بأن أملاكه قد صودرت، أو نهبت، وبأن مقعده النيابي مهدد بمرشح عتيد تدعمه “القوى الغريبة” وتمنحه من النفوذ ما يهدد بالخطر مصالح… الطائفة!
كذلك فثمة بينهم من “يتشدد” حتى يمنع غيره من تصدر لائحة المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية ، فبهذا الأسلوب قد يحرجه فيخرجه أو قد “يحرقه” فيتخلص من واحد من المنافسين الكثر!
وإذا كان بعض النواب المطروحة أسماؤهم في “بازار” معركة الرئاسة يشكلون باعتدالهم، أو بصمتهم، مصدر خطر، فإن تكتل الموارنة المستقلين يتصرف الآن وكأنه “نادي المرشحين لرئاسة الجمهورية”، من جاء من خارجه فهو إما مفرط وإما متجاوز،
لكن الرئاسة تستلزم التفاهم مع النواب المسلمين، ومثل هذا التفاهم يقتضي الاعتدال، ويفرض التسليم ببعض الاصلاح، فأي هي الحدود؟! إن أعطى أقل مما يجب أخذ غيره الأصوات، وإن أعطى أكثر مما يجوز ذهبت عنه بركة الطائفة العظمى وممثلها “الشرعي” الوحيد ميشال عون.
كيف السبيل إذن إلى رئاسة بغير إصلاح، أو بإصلاح شكلي لا يستقيم مع متطلبات المرحلة الدقيقة ولا مع موجبات إنهاء الحرب؟!
وكيف تجيء الرئاسة من دون إصلاح والعرب، وفي الطليعة منهم المحافظون، ودول الغرب بالتحديد، وفي الطليعة منها الولايات المتحدة الأميركية وحتى فرنسا، تقول به كضرورة لا مجال لتفاديها؟!
العرب من أمامكم والغرب من ورائكم والنظام المتهالك شهادة عليكم، فأين المفر؟!
لكن ميشال عون ينتظركم للمحاسبة، والبطريرك في البعيد، وسمير جعجع يقول ما لا يسمح لمن انتزع منه “الدويلة” بأن يزايد عليه،
ثم إن داني شمعون. يقول نقيض ما يفعل، وينقض ظهراً ما يقوله صبحاً، ويسلك ما يخالف القولين،
أما شاكر أبو سليمان فيستنخي جورج سعادة ويكاد يحمله مسؤولية مصير المسيحيين في الشرق: ليس لنا غيرك يا دكتور! إياك والتفريط، حذار، حذار الاصلاح!
هنا وهناك يتخذون من رئيس الجبهة اللبنانية – رئيس الكتائب متراساً يتلطون خلفه ليخطفوا الغنم، إن كان ثمة غنم، تاركين له الغرم كله!
أمام اللجنة العربية، كما أمام صائب سلام وعادل عسيران وحسين الحسيني يريدون: إذا مشى جورج سعادة مشينا. هو غطاؤنا، فليقدم على الخطوة الأولى ونتبعه.
وفي الاتصالات مع “الشرقية” عبر باريس ولارنكا وجنيف وعواصم أخرى، يقولون: نحن صامدون على موقفنا، لاسيما إذا صمد جورج سعادة. إنه طليعتنا فاضمنوا صموده فيكون لنا ما نريد،
وجورج سعادة يحاول أن يتجاوز الحرج وأن يحمي عقله ومنطقه ومصيره الشخصي… والمصير الوطني، وصولاً إلى مصير المسيحيين في الشرق!
إنه يشعر بأنه مستهدف، وهو لا يستطيع التحرر من موجبات الموقع والتركة التي ورثها عن آل الجميل.
وبرغم تحرر من وطأة الأمل بالرئاسة فإنه يعاني من ضغوط أولئك الذين يريدون اتخاذه منطة للوصول إلى الموقع الفخم، وليدفع بعد ذلك ما يدفع ثمناً للمزايدة أو للتفريط.
لكن الوفاق يتطلب أيضاً “أصوات” الآخرين الغائبين – الحاضرين حتى وإن كانوا في طهران أو في الملجأ الجمهوري ببعبدا أو في “المجلس الحربي” بالكرنتينا.
ثم إن الوفاق الوطني يتطلب مباركة الدول، العربية والعظمى، أساساً، ثم سائر دول الدنيا،
فكما بسحر ساحر يتحول الطائفي إلى سياسي والسياسي إلى طائفي، كذلك بالسحر نفسه يتحول الداخلي إلى خارجي والخارجي إلى شأن داخلي صميم!
النتيجة تصير سبباً، والسبب الأصلي – المولد لتلك النتيجة – يتوارى في انتظار الفراغ من معالجة الأسباب الجديدة الأشد خطورة من مولدها!
الوفاق نتيجة للاصلاح، فكيف يمكن الوصول إليه بالقفز من فوق السبب؟!
وفي اللجنة العربية من يراقب ويستمتع وقد يستغرب ما يشهد من مناورات ومن ألاعيب ومن مسرحيات يغلب عليها الطابع الهزلي، فما يقال أمامها مجتمعة غير ما يقال ولمن يمكن الانفراد به من أعضائها أو من القادرين على التوصيل… وما يقال في اللقاءات الموسعة متناقض مع ما يقال في اللقاءات الشخصية الضيقة.
الكل يدعون إنهم مع الاصلاح، لكن العديد منهم ينسف – عن وعي – مشروع الاصلاح بذريعة إنه إنما يجمله ليصير مقبولاً،
ولقد نجحت اللجنة في كشف المواقف حين أبلغت الجميع اهتموا أنتم بالشأن الداخلي، أي بالاصلاح السياسي، واتركوا لي أمر موضوعات السيادة والعلاقات مع سوريا (بما فيها الوجود العسكري) والاحتلال الإسرائيلي،
الآن يقف الجميع “عراة” أمام اللجنة (ومن خلفها): من كان يدعي إنه مع إصلاح جذري يصل إلى حد نسف النظام الراهن، يعود إلى التحصن وراء ما تبقى من النظام القديم رافضاً المس به لأنه ضمانة لوجود لبنان.
ومن كان يقول إن اللبنانيين أخوة لا تفرق بينهم الطوائف أو مواقع السلطة أو الامتيازات، يكاد يجهر بأن “اللبنانيين” إنما ينقسمون إلى حكام ومحكومين، ولا مجال للتقاسم أو للتبادل أو حتى للتسوية.
الصورة في الطائف ليست سوداء، فلم يصل المؤتمرون إلى طريق مسدود ولا يعتقدن أحد إنهم سيعودون بغير اتفاق.
والواقع إن هذه المناقشات المحتدمة، بالخلافات فيها والاستنفار الطائفي والمزايدات، بالمخاوف فيها الصحيحة منها والمفبركة على عجل، كلها “ملحوظة” في سيناريو “الحل العربي” ولها هامشها الخاص،
لكن ثمة من بدأ يقلق من التطويل ومن التمديد للمشاورات التي، على أهميتها، ليست هي التي ستحدد مسار الحل،
ذلك إن هذا التطويل مرتبط بالاتصالات الجارية مع عواصم القرار الدولي، والتي تستهدف تمهيد الأرض لنتائج مؤتمر البرلمانيين في الطائف، بحيث تكون المدخل الفعلي إلى التسوية العتيدة وليس خاتمة المطاف في جهد اللجنة العربية من أجل تقريب موعد السلام الوطني في لبنان.
وما تعمل له اللجنة أن تشهد بيروت. وبالسرعة الضرورية، إنجاز ما لا بد من إنجازه بعد الطائف، ليقف مشروع حلها العربي على قدميه،
هذا يعني إن تذلل عقبة “الجنرال” – والجنرالات الآخرين – سلفاً، فلا يعترض (أو يعترضون) غداً على اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيسه وهيئة مكتبه، ثم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية والتصويت على التعديلات الدستورية المطلوبة لإقرار الاصلاح السياسي صيغة المستقبل في لبنان ما بعد الحرب.
ويفترض المراقبون هنا إن الاتصالات مع عواصم القرار في الخارج إنما تستهدف تهيئة الأجواء للاتفاق على شخص الرئيس الجديد، على قاعدة وثيقة الاصلاح، وحكومة الوفاق الوطني العتيدة،
إنهم يصنعون لنا مستقبلنا، من دون أن يتوقفوا طويلاً أمام مقتضيات اللعبة السياسية الداخلية، بالمزايدات فيها والمناقصات.
وإذا كانت اللجنة العربية قد طلبت من دول الغرب أن تتولى تعليق الجرس في عنق “الجنرال”، فلأنها تفترض إن “المعنيين” بالجنرالات الآخرين جاهزون لإنجاز هذه المهمة، أو إنهم باشروها فعلاً.
ولا نظن أن اللجنة قد فوجئت بالكلام الذي سمعته من بعض الغرب والذي مفاده: تارة تمنعوننا من ادعاء تمثيل المسيحيين والاهتمام بشؤونهم، وطوراً ، يجيئون إلينا لنتحدث إليهم فنهدئ روعهم ونقنعهم بأن يقبلوا الحل الذي تقترحون… أليس هذا غريباً؟!
لكن اللجنة تتصرف بوعي وحكمة، وإن كان الزمن قد بدأ يعمل في غير صالح هيبتها ونفوذها المعني،
فعشرة أيام “بركات”، كما يقول الأخوان الجزائريون،
ولقد آن أن يتوقف الكلام في الهامش وأن يدخل الجميع إلى صلب الموضوع وأن يحسم الأمر بالإنجاز،
والحسم بين شروط الديموقراطية البرلمانية… أيضاً!