مرة أخرى، مع بعض الأسئلة الساذجة:
1 – لماذا لا تتحرك الدولة في لبنان؟ وبصيغة أدق: لماذا لا تثبت الحد الأدنى من وجودها؟
وقبل: لماذا لا يحدد الحكم توجهاته الأساسية التي لا بد وأن تتضمن مشاريع حلول للمشاكل القائمة في البلاد؟
2 – ممن يخاف الحكم؟ وعلى ماذا يخاف؟ وهل في لبنان، الآن ، قوى مخيفة إلى حد أن تشل الدولة وتمنع على الحكم ليس فقط العملوالإنجاز بل حتى صياغة التصورات ناهيك بالأحلام؟!
3 – هل يمكن لأي جهة في العالم، عربية كانت أو دولية، أن تقترح حلولاً لمسألة هي في حقيقتها أساس قيام “الوطن” اللبناني؟! وأين هو الحد الفاصل بين ما يسمى “الحل الدولي للمسألة اللبنانية” وما يمكن اعتباره “تدخلاً في الشؤون الداخلية” بالمعاني القانونية والشرعية والواقعية؟
4 – هل تفرض مقتضيات “أزمة الشرق الأوسط” أن تعيش بيروت جو الذعر غير المبرر والذي لم ينشأ مثله حتى في ظل أشرس أيام الحرب الأهلية قصفاً وقنصاً وذبحاً على الهوية؟!
إن المواطن العادي يطرح على نفسه يومياً عشرات من هذه الأسئلة، ويحاول عبثاً أن يلقى لها أجوبة محددة ومقنعة، وينتهي بأن يلعن الدولة والحكم والحكام الذين يكاد يتهمهم بالتواطؤ على إطالة أمد الأزمة وزيادة تعقيداتها.
فليس من المعقول ،بالنسبة لمواطن عادي وساذج، أن يكون “أبطال” حاجز العدالية – مثلاً – أقوى من الدولة، حتى لو كانت في أضعف حالاتها.
صحيح إن حاجز العدلية له من يحميه، لكن حماته أنفسهم ليسوا “سوبرمان” وليسوا قوة لا تقهر، وإذا كانوا الآن يتصرفون هكذا فلأن الدولة تصرفت معهم وكأنهم هي أضعف خلق الله، وكأنهم هو أهل الحل والربط والقرارما يرتضونه يكون وما عداه لا يكون!
ويتساءل هذا المواطن الساذج: وماذا لو ضرب، مثلاً، حاجز العدلية فقتل حراسه الأشاوس، وانفتحت طريق القضاء أمام الناس فتحركت معاملاتهم النائمة، واستيقظت الأحكام إحقاقاً للحق… والحق في مصلحة الفقراء، من حيث المبدأ، بمن فيهم أولئك الذين كانوا يسدون طريق العدل والعدالة والناس أجمعين على باب العدلية؟!
ويتساءل هذا المواطن الساذج: لماذا لم يحسم موضوع إعادة بناء الجيش بغير ضجة ومن دون أن يطرح قانون الدفاع في سوق المزايدات الطائفية والسياسية، وقد كان بقدرة الحكم أن يجنب نفسه والبلاد هزات وخضات لا هدف لها إلا ضرب الدولة ومنع عودتها وانبثاق مؤسساتها جميعاً وأولها الجيش؟!
ثم… لماذا ترك موضوع الضباط الخونة من أمثال سعد حداد وسامي الشدياق بغير حسم حتى صار “أزمة دولية” تبتز به إسرائيل دولتنا العلية عبر الوسيط الأميركي “الشريف”، وتبتز به “الجبهة اللبنانية” دولتنا العلية ذاتها حتى تكاد تلغيها؟!
وفي تقدير هذا المواطن الساذج أن “جيش كوكبا” لو رد على مدافع سعد حداد بمدافعه القليلة العدد والمحدودة الفاعلية لفرض وضعاً آخر تماماً، ومن طبيعة مناقضة محلياً وعربياً ودولياً لهذا الوضع القائم، والذي تجد فيه الدولة نفسها في الزاوية تستجدي عطف العالم وتطلب منه أن يقدم أبناءه على قربان عملاء إسرائيل اللبنانيين فدية عنها وتوكيداً لجدراتها ببسط سلطتها الشرعية والمركزية على أنحاء لبنان كافة؟!
إن المواطن العادي يعيش واقعاً آخر غير الذي تتوهمه الدولة وتحبس نفسها فيه، فهو يرى أن حجوم القوى والأطراف السياسية (والعسكرية) المحلية تتضاءل يوماً بعد يوم، ويرى أنه ليس في البلاد “سوبرمان” يتمتع بمقدرة سحرية خارقة.
فقرار الحرب في لبنان (وفي المنطقة) أكبر من أن يترك للمجلس الحربي الكتائبي أو “القوات اللبنانية” أو لخصوم هؤلاء في الجهة الأخرى.
ومنطق الدولة حيال هذا الواقع عجيب: فهي بمقدار ما تسلم بأن القضية اللبنانية باتت شأناً عربياً بل ودولياً تعطي أهمية إضافية وخرافية لبعض الأطراف المحلية وبالذات لأطراف “الجبهة اللبنانية”.
ومنطق المواطن العادي بسيط جداً: إن الأسوأ هو الوضع الراهن، وأي تحرك لا يمكن أن ينتهي بما هو أسوأ، فلماذا الانتظار، إذن، وحتام يظل “الحنش” أو “الثعلب” أو “النمرود” أقوى من الدولة بجيشها وقوى أمنها والردع الموضوع بتصرفها؟!
والمواطن العادي لا يستطتيع فهم موقف الدولة من قوات الردع العربية، ويكاد يتهمها بالتسبب في الإساءة إلى سمعة الجيوش العربية من خلال سوء استخدامها في لبنان.
فهذا المواطن استشعر بشيء من الفخر القومي حين رأى الدول العربية تؤمر على جيوشها رئيس جمه وريته، وقرأ في
هذا القرار تجاوزاً للطائفية من شأنه أن يسهل ضرب هذا السرطان في لبنان ذاته، ثم فجع في آماله وهو يعيش النتائج.
إن الحل ينبع من الداخل. ومن داخل الداخل. من الصدر والوجدان.. من العقل والإرادة. من القرار ومن الحلم.
والحل غائب دائماً عن أفق الدولة، وأفق الدولة مسدود بحواجز الميليشيات وحوادثها وتعدياتها التي لا تقمع بل تعتمد الوساطات والشفاعات علاجاً لها.
ولا يمكن لأي عربي خارج لبنان، ولا لأي جهة أن تساعدنا بأكثر مما نرغب، وهم لا يمكن أن يساعدونا إلا حيث نحدد لهم وبقدر ما نعطيهم الحق في المساعدة.
ونصل إلى جو الذعر.
إن المواطن العادي يعتبر أن هذا الجو الذي ساد بيروت في الفترة الأخيرة لم يكن بريئاً، ولم ينبت من فراغ، ويعرف – بالاستقراء – إن جهازاً أو أجهزة كانت وراء نشره عبر الشائعة المسمومة وعبر تضخيم بعض الحوادث وعبر افتعال بعض الحوادث أيضاً.
ولا يصدق المواطن العادي أن الدولة عاجزة عن تسيير دوريات، وعن قمع مخالفات بسيطة تقع جهاراً نهاراً و”أبطالها” أسوأ من أن يتبناهم أو يدافع عنهم أحد .
إن الدولة ضعيفة، حسناً،
لكن حتى هذه الدولة تستطيع إصلاح خطوط الهاتف، وضمان حركة سير طبيعية.
وهي حين لا تفعل لا تستطيع نسبة العجز إلى أحد خارجها، “فأزمة الشرق الأوسط” تفرض ظلالها على المنطقة برمتها، ومع ذلك لم تتقطع خطوط الهاتف في عمان، ولم يتوقف إنشاء المجاري في دمشق، ولن نذكر إسرائيل حتى لا نتهم بالترويج للعدو.
لهذاكله يتوجه المواطن بالاتهام، أولا ً، إلى الدولة، ويقول في الحكم ما يقول: إنه عاجز، إنه مشلول، وصولاً على القول بأن هذا الحكم متواطئ مع أصحاب المصلحة في إطالة أمد الأزمة.
وبالطبع لا يبرئ المواطن الأطراف والقوى السياسية الموجودة، لكنه يعتبر أن العجز قرار ذاتي للحكم، وإنه حين يتحرك الحكم ستعاني هذه الأطراف من العجز، وستسقط هي أسيرة رد الفعل بدل أن تكون هي المبادرة وهو المتلقي والمنفعل فحسب.
وللحديث عن العجز والعاجزين وعن القوي وأسباب قوته، بقية بعد.