… وبعد أيام من القصف السياسي والإعلامي العنيف الذي شاركت فيه عواصم عدة أوروبية وأميركية وعربية، إضافة إلى مدفعية العدو الإسرائيلي، انطلاقاً من أحداث زحله، صار ممكناً الإعلان عن الهدف الحقيقي لهذه “الحرب”: إنه تدويل المسألة اللبنانية تمهيداً لإرسال قوات دولية إلى لبنان!
ومن عجب أن هذا كله قد “تصادف” وقوعه مع قدوم وزير الخارجية الأميركية (الجديد في الإدارة الجديدة!) إلى المنطقة. بمهمة محددة هي إقناع من التقاهم من “زعمائها” بأن الخطر السوفياتي عليهم يجب أن يتقدم على الخطر الإسرائيلي… إن كان ثمة خطر إسرائيلي!
و”تصادف” وقوعه مع ارتفاع حمى الانتخابات الفرنسية التي لم يجد بعض مرشحيها، وفي طليعتهم الرئيس الحالي فاليري جيسكار ديستان. شعارات أكثر استجابة لمطامح الشعب الفرنسي من محاولة إحياء روح الحرب الصليبية، وتذكير الفرنسيين بأنهم حماة المسيحية عامة والكثلكة تحديداً في الشرق. وفي لبنان على وجه الخصوص، ومن هنا فعليهم واجب حماية المسيحيين في زحلة وسائر المناطق اللبنانية من خطر الإبادة!
و”تصادف” وقوعه أيضاً وأيضاً (بالغرائب الصدف) عشية الانتخابات الإسرائيلية، والتي يتنافس فيها بيغن مع خصومه على إثبات من منهم الأقدر على إبادة الفلسطينيين ومن يتعاطف ويتحالف معهم من اللبنانيين وسائر العرب.
وهكذا اتفق الجميع، في واشنطن وباريس ولندن ولبرلمان الأوروبي في لوكسمبورغ، مع من في تل أبيب وقاهرة السادات وعمان الملك حسين ورياض الأمير فهد، على أن زحله هي محور الكون!!
وإن على نتيجة الصراع فيها يتوقف مصير العالم: فإذا انتصر الردع حلت الكارثة وانفجرت الحرب العالمية الثالثة، أما إذا انتصرت ميليشيات بشير الجميل فسيعم السلام المشتهى أرجاء المعمورة، وسيتدفق الخير أنهاراً من لبنان وعسل ودولارات، وستردد العصافير فوق الأغصان أجمل الألحان، وسينتظم المحبون والعشاق في حلقات رقص دائرية وجلسات سمر وستدور عليهم كؤوس العرق الزحلاوي ليشربوا حتى الثمالة مرددين بجذل: “آه يا سندي، آخ يا ديني، آه”.
وما أروح أن تكون زحله عاصمة الكون، بشرط واحد: أن يبقى لأهلها، للزحليين، مكان فيها، لا أن يباد الزحليون لكي يأتي الكون إلى زحله بحجة الدفاع عنهم، ومعهم شيء من النفط!
هكذا الخطة إذن: تحت شعار حماية إسرائيل وأمنها يباد الفلسطينيون ومعهم جنوب لبنان وثلث اللبنانيين (وفي هذه الحالة لا تهم نسبهم الطائفية، ويتساوى المسيحي مع المسلم، الماروني مع الشيعي والكاثوليكي مع السني والأرثوذكسي مع الدرزي)ز
وتحت شعار حماية المسيحيين في لبنان يباد الوطنيون في لبنان المعترضون على مشروع صهينته وتسليمه إلى العدو الإسرائيلي بواسطة السمسار بشير الجميل (وفي هذه الحالة لا يعود مهماَ استقلال لبنان وسيادته وحريته الخرافية… فحراب الأميركيين والفرنسيين والإسرائيليين لا تشكل في نظر الجبهة اللبنانية “خطراً على حرية لبنان وسيادته واستقلاله بل هي ضمانة لها جميعاً، ووحده وجود أي عربي – لغير أغراض السياحة واستئجار الشقق المفروشة – هو تهديد للحرية ونسف للسيادة واغتصاب للاستقلال).
وتحت شعار حماية النفط العربي للغرب، تباد إرادة المنطقة العربية جميعاً وشعوبها إذا اقتضى الأمر، فالنفط عنصر من عناصر الحضارة والتقدم الإنساني، وهو بهذا المعنى أهم من البدوي المتخلف، وما أهمية أن يباد شعب الجزيرة والخليج مقابل ضمان استمرار تدفق النفط العربي إلى الأميركان والأوروبيين المنكبين على صناعة أفضل للإنسان، إنسان العصر الحديث؟!
والآن ، فلنناقش بشيء من الهدوء والجدية معنى إرسال قوة دولية إلى لبنان، سواء تحت راية الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة أو الجامعة العربية أو راية مزورة أخرى.
والراية ستكون مزورة، كائنة ما كانت، لكنها في واقع الأمر وحقيقته لن تكون غير راية إسرائيلية،
فالتدويل، في لبنان، وفي هذا الظرف العربي الراهن والمحدد المواصفات، لا يعني شيئاً آخر غير الانضمام إلى اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المنفرد التي عقدها السادات مع العدو الإسرائيلي.
والتدويل، في لبنان وفي هذا الظرف العربي الراهن، هو الوجه الآخر للمعالجة الأميركية – الإسرائيلية للمسألة الفلسطينية: فإذا كان تمرير الحكم الذاتي صعباً أو مستحيلاً في الضفة الغربية وغزه، فلنجربه في لبنان أولاً، متوسلين الأمم المتحدة – إذا أمكن – أو بعض الأطراف المحلية والعربية الضالعة في المؤامرة الكبرى التي تستهدف إخضاع المنطقة العربية برمتها لمشروع الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية المشترك.
وهكذا فالتدويل، هنا، ليس إلا توغلاً أميركياً – إسرائيلياً في الأرض العربية، وفوق جثث اللبنانيين (عموماً) والفلسطينيين والسوريين ومن ناصرهم من أخوانهم العرب.
والتدويل، وبغض النظر عن هذا كله، لا يحل أي شيء في لبنان، بل هو يعقد المسألة ويلغي احتمالات حلها في المدى المنظور، على الأقل، ويفتح في هذا الجسم الممزق مزيداً من الجراح النازفة باستمرار.
وبهدوء نطرح هذه الأسئلة البسيطة، على طريق توضيح المخاطر المقبلة إلينا مع القوات الدولية المنقذة:
1 – هل المشكلة في لبنان تتصل بنقص في عدد الجنود المولجين بحفظ الأمن والاستقرار، أم هي تنبع من افتقاد الأساس السياسي للحل، وهو ما يعبر عنه بالتوافق بين الأطراف اللبنانية، أو الوفاق، أو التفاهم على القواسم (أو الجوامع المشتركة)؟!
2 – هل المشكلة في لبنان أن قوات الردع قد عجزت عن ضبط الأوضاع لعوامل ذاتية تتصل بتكوينها وقدراتها العسكرية. أم أن القيادة العليا لهذه القوات (أي رئيس الجمهورية اللبنانية) قد رأت عدم استخدامها هنا أو هناك، أو هي حدت من استخدام قدراتها لأسباب سياسية (وطائفية)، وفقاً لتقديراتها السياسية ولاستنتاجاتها وتحليلها الخاص للخريطة السياسية المحلية والإقليمية والدولية؟!
3 – هل المشكلة أن قوات الردع تتشكل، بأكثريتها الساحقة، من جنود سوريين ومسلمين، وإنها بسبب من تشكيلها تمارس سياسة إبادة المسيحيين، وإنه لا بد بالتالي من إيفاد جنود “مسيحيين”، أوروبيين أو أميركيين، لحماية العرق الماروني المقدس من الاندثار، ومع الموارنة الكاثوليك والأرثوذكس وسائر الطوائف المسيحية؟!
4 – هل أساس الأزمة في لبنان إننا مختلفون مع فرنسا ديستان وأميركا ريغان وهيغ، وبريطانيا تاتشر فإذا ما تفاهمنا معهم، أو بالأحرى إذا ما تفاهموا علينا انتهت مأساتنا وحلت أزماتنا وعاد لبنان يرتع بالسلام من جنوبه (سقى الله الجنوب) إلى الشمال، ومن شرقه إلى البحر الأبيض المتوسط؟!
5 – ثم، كيف يراد لنا أن نقبل إن الجندي السوري محتل، ومثله الفدائي أو حتى المقيم الفلسطيني على أرض لبنان، وإن الجندي الأميركي أو الفرنسي أو الهولندي هو المحرر والمنقذ وحامي حمى الاستقلال والسيادة والأرز الخالد؟!
6 – ومن قبيل التفكه دعونا نتساءل: بأي سلاح جديد سيأتينا هؤلاء الجنود الميامين، بحيث سيتمكنون من “حسم” الأمور في لبنان في غمضة عين، وهي التي تتدهور – ولأسباب عملية وسياسية منظورة ومفهومة – منذ ست سنوات ونيف؟!
هل سيهددوننا بالقنبلة الذرية، أم الهيدروجينية، أم بقنبلة النيوترون الجديدة؟!
ففي حدود المعلومات لم تمنع الولايات المتحدة عن إسرائيل أي سلاح تنتجه، في ما عدا هذه القنابل (ربما لأن تفجيرها يحتاج إلى مدى أوسع)… وفي حدود الوقائع فإن جيش العدو الإسرائيلي قد جرب فينا (وفي الفلسطينين) أسباب القتل والتدمير الأميركية جميعاً، في البر والبحر والجو، في الجنوب والشمال والبقاع وبيروت وبعض أنحاء الجبل، فلم نرتدع ولم نستسلم ولم نتراكض إلى كامي ديفيد لنوقع خانعين على إلغاء وجودنا وبيع أجيالنا الآتية للنخاس الأميركي – الإسرائيلي؟!
7 – من باب التفكه أيضاً نتساءل: هل إذا حل جندي مارتينيكي، مثلاً، أو كندي، أو برازيلي أو كاوبوي من تكساس أو الدورادو محل الجندي السوري، سيحل بشير الجميل ميليشياته ويلغي دويلته ويتوقف عن نهب المرفأ واختلاس الجمارك وسائر واردات خزينة الدولة اللبنانية؟!
… وهل ستصبح طرابلس وزغرتا وإهدن وبشري وعندقيت وبيت ملات وحلبا وعكار والشمال عموماً، والبقاع، والجبل (غير الخاضع لبشير وميليشياته) مناطق محررة، إذا فتحت شوارعها وبيوتها لعسكر قادم من هونولولو أو ماريشيوس أو المكسيك أو من نابولي أو مرسيليا أو من نمسا كرايسكي؟!
هل شرط “تحريرنا” أن يتم بالفعل احتلالنا على يد قوة أجنبية؟!
وهل هان أمرنا على أسيادنا من قادة الميليشيات إلى حد استئجار أو استقدام مرتزقة دوليين ليعلمونا معنى الكرامة والشعور الوطني والحرص على وحدة لبنان ومنع إبادة أبنائه؟!
وهل هم يصدقون فعلاً إننا، إذا ما جاء عسكر الانكشارية الجدد هؤلاء، سنصبح أكثر قرباً منهم، هم أخوتنا وأهلنا، وأكثر حرصاً منا الآن على الأشرفية وانطلياس والزلقا وجونيه وغزير وعشقوت وحراجل وميروبا ومزرعة كفرذبيان وفاريا وبكفيا وديك المحدي وبيت شباب وقرنة شهوان… ناهيك بزحله الحبيبة والغالية على قلوبنا والأقرب إلينا منهم اليوم كما أمس وكما في الغد وبعد الغد وبعد بعد غد؟!
ثم هل هم، وأولئك الرؤساء والجنرالات والقادة الدوليون، حكام العواصم الكبرى والمقررة في شؤون العالم، يصدقون إننا سنقبل بأن يطأ أرضنا أي غريب، وسنصدع لأوامرهم فنستقبل انكشارية الغرب “المحررين” لنا من عروبتنا، بالورود والرياحين وزغاريد النسوة وأهازيج الرجال وقرع الطبول؟!
هل يصدقون إنهم سينتزعون منا أرضنا، أرض لبنان كله من الناقورة إلى النهر الكبير، أو سينتزعوننا من أرضنا، هكذا لأنهم قرروا أن يحموا مصالحهم ويوطدوا دعائم إمبراطورياتهم الاستعمارية وأن يؤمنوا استمرار نهبهم لخيراتنا الوفيرة؟!
هل دار الفلك دورته وعادت عصور الاستعباد واستعمار الشعوب والأوطان تفرد ظلها على الكون، بلا حسيب أو رقيب، وأسقطت الشعوب نهائياً من الحساب، وأعطى غزاة العصر الحديث لأنفسهم الحق برسم مصير الكون وفق أمزجتهم ومصالح احتكاراتهم ونزعة السيطرة والتسلط فيهم؟!
ولكننا على عتبة القرن الحادي والعشرين، وفي عصر يسمى
-حقاً – عصر الشعوب: عصر النهوض العظيم لأمم الأرض المغلوبة على أمرها، وقد شكلت هذه الأمة المجيدة طليعة لها على امتداد الخمسينات والستينات… فمن قال إن كل شيء قد انتهى، وإن الشمس قد غربت وإن الليل وحده سيكون السيد، هنا كما في كل مكان آخر، حتى إشعار آخر؟!
إن لبنان نفسه يقدم الدليل على أن القرار النهائي يظل قرار أهل الشأن، فما تحمله هذا البلد الصغير والضعيف على امتداد السنوات الأخيرة، يفوق الوصف والخيال وأي توقع، ولكنه ما زال صامداً، وما زلنا فيه صامدين، لم نسقط ولم نستسلم ولا ركعنا أمام الضغوط وأمام المؤامرات… لا خنا ولا سمحنا لغيرنا بأن يخون، ودفعنا الضريبة وما زلنا ندفعها عن رضى وعن ثقة بأن أمتنا لن تركع ولن تموت.
وها نحن اليوم، مع أخينا الفلسطيني، ومع أخينا السوري، نواجه مجتمعين، ومعنا أخوتنا العرب جميعاً، بغض النظر عن مواقف حكامهم، المؤامرة الجديدة.
لا هم أبادوا الفلسطيني وصفوا قضيته.
ولا هم استطاعوا أن يفرضوا على سوريا الركوع أو التخلي عن نهج الصمود،
ولا هم استطاعوا أن يدفعون صاغرين إلى الغيتو الكتائبي الصغير أو إلى الغيتو الإسرائيلي الكبير.
في الذكرى السادسة لمجزرة 13 نيسان يبدأون العمل العلني لمرحلة جديدة في الخطة التآمرية علينا، شعباً ووطناً وأمة مجيدة.
ويمكننا أن نستعشر شيئاً من الرضى عن النفس، فلقد قاومنا فعطلنا تحقيق أغراض المتأمرين ست سنوات حتى اليوم، وما زلنا صامدين،
ولن تمر مؤامرة التدويل،
ولن يمر انكشارية “الحل الدولي”!! الذي يستهدف أول ما يستهدف نزع عروبة لبنان وتصفية العرب فيه ليتم تسليمه بعد ذلك إلى العدو الإسرائيلي.
سنقاوم وسنقاتل بشراسة أجدادنا الذين حموا هذه الثغور عبر أجيال وأجيال، وسنبقى هنا، فنحن نحن لبنان، ونحن نحن فلسطين، ونحن نحن سوريا وسائر العرب،
سنقاوم انكشارية الغرب، وسنهزمهم وسنرد الموجة الاستعمارية على أعقابها.
سنقاوم: بالبطولة الصامتة والوادعة لهذا الجنوبي العظيم، الذي لا تفعل قذائف العدو الإسرائيلي غير تعميق جذوره داخل أرضه،
سنقاوم: بالبطولة الصامتة والوادعة لهذا المواطن الباقي في الشياح، في حي ماضي، في صفير، في الليلكي والمريجه وحي السلم وصحراء الشويفات، الذي ينهمك في إضافة غرفة إلى بيته الصغير في الفترة الفاصلة بين قذيفة وأخرى.
سنقاوم : بالبطولة الصامتة والوادعة والواعية لهذا المواطن الذي ما كان طائفياً ولن يكون، والذي رفض أن يرد حتى على الدولة العنصرية الطائفية التي أقامها العدو الإسرائيلي على أرض فلسطين بإذكاءنا الطائفية تجاه اليهود.
سنقاوم: بوعينا، بوطنيتنا، بقوميتنا، بحقنا الذي لا نقبل فيه نقاشاً بأن نكون أسياداً وأحراراً وعرباً – كما ولدتنا أمهماتنا – فوق أرضنا العربية.
سنقاوم: بتنظيم صفوفنا وترسيخ الوحدة بين فصائلنا وتنظيماتنا وهيئاتنا الشعبية.
سنقاوم: بتدعيم العلاقة النضالية مع أخوتنا ورفاق سلاحنا في سوريا الصامدة والمقاومة الفلسطينية المستبسلة في الدفاع عن شرف هذه الأمة.
لقد وحدوا “هم” القضية والمعركة: فلبنان، في نظرهم، فلسطيني، وسوريا لبنانية، وفلسطين هي كل العرب، ولا فاصل ولا فارق بين معترض ومقاتل ومقاوم ومتلكئ.
… وابشر بطول سلامة يا شيخ بشير، فالانكشارية قادمون،
ونحن ننتظرهم، بشوق، فهذه فرصة تاريخية لتحويل معركة تحرير لبنان إلى معركة لتحرير كل العرب في أرضهم الفسيحة المنداحة بين المحيط والخليج.
وسيظل لبنان عربياً بإرادة أهله، ولن يصير إسرائيلياً مهما حشد له من مرتزقة وانكشارية وفلول صليبية منقحة ومزيدة وناطقة بالإنكليزية مع لكنة أميركية مميزة!