واشنطن متعجلة جداً، أكثر مما يطيق الأكثر تعجلاً من بين العرب، على تحقيق إنجاز ما، ولو إعلامي وإنما من طبيعة مدوية، في سياق “مؤتمر السلام” الذي ترعاه.
حتى مشروع نقل الجولة الجديدة من المفاوضات من روما إلى واشنطن دليل إضافي على تعجل نتيجة ما وإمكان استثمارها بسرعة في المعركة الانتخابية للرئيس الأميركي جورج بوش.
على هذا فقد تكون واشنطن هذه المرة أقسى على “الأصدقاء العرب”، مما كانت في الجولات السابقة. لقد انتهى زمن التعاطف معهم وتطييب خواطرهم ومطالبتهم بألا يستجيبوا لاستفزازات “المتطرف” اسحق شامير.
لقد انقلبت الأدوار، ولسوف نتوجه الآن بالمطالبة إليهم لا إلى “مفاوضهم” الإسرائيلي الذي بات يقبع في حضنها ويتحصن باحتياجها إلى “أصواته” ولسوف يتركز ضغطها عليهم، منطلقة من أن إسرائيل قامت بما عليها فأسقطت “المتطرف” وجاءت “بالمعتدل” وبات على العرب أن يتقدموا خطوة واسعة بالمقابل للتلاقي في منتصف الطريق.
لكن الطريق نقطة واحدة، فإلى أين يتقدم هذا المفاوض العربي الذي تخلى عن “التطرف” منذ زمن بعيد؟!
في واشنطن الأولى كان الأميركي بعيداً بما يكفي عن الإسرائيلي، وكان لا يتورع عن التحريض عليه، أو محاولة الضغط مباشرة عليه، وقد وصل الأمر إلى حد تبادل الهجمات على باب الكونغرس،
أما في واشنطن الغد فلسوف تتوحد الصفوف الأميركية – الإسرائيلية في وجه العرب، حتى لو بقيت بعض الخلافات والتمايزات في مواقف الحليفين التاريخيين.
ثم إن واشنطن بوش أكثر حاجة اليوم إلى حليفها الإسرائيلي بوجهه الجديد، منها في أي وقت مضى. لقد خاض بوش بعض معركته الانتخابية الأميركية داخل إسرائيل، وعبرها يريد أن يوظف انتصاره في واشنطن، فهل يتركه اليهودي (والصهيوني) اسحق رابين رابين يفعل ذلك مجاناً، كائنة ما كانت درجة الولاء له؟!
لكن للمسألة وجهها الآخر، إذا ما دقق العرب النظر فيها: فهم أقدر من إسرائيل على أن يعطوا ، سواء في السياسة أم في المال، ولعله الموضوع الأهم، بشرط وحيد أن يكون لعطائهم مقابل مجز، وألا يكون مجرد تبرع سخي يقدمه “فاعل خير” أهبل لوجه الله الكريم.
ولا يستطيع العرب أن يأخذوا إذا كانوا متباعدين،
كما إن أحداً منهم لا يستطيع أن يقبل أي عرض مسموم بالتفرد، كائنة ما كانت إغراءته، لأنه يكون كمن يبيع أرضاً بوهم، ولأنه عند ساعة الحساب سيكتشف إن المفرط لا يعطى وإن عقابه عند من تنازل له سيكون أشد من عقابه عند من تنازل بامسه… فالمتنازل، يصبح بعد فعلته، عبئاً ثقيلاً يتعجل المستفيد منه التخلص منه.
إن لقاء دمشق مهم بذاته، لكن أهميته لا تتكامل إلا بالقرار الطبيعي الذي يتوقع أن يصدر عنه وهن: رفض الأطراف مجتمعة أي حل منفرد، والالتزام بهذا الرفض، والضغط بهذا الموقف الموحد على الأميركي لكي ينتزع من الإسرائيلي الحد الأدنى من الحقوق العربية بحيث يثبت رابين عملياً أنه غير شامير، وإنه آت من الحرب إلى التسوية وليس ذاهباً بالتسوية إلى مشروع حرب جديدة لم يتحمس لها شامير ذاته.
وإذا كانت الإدارة الأميركية تحس بالرضا عن النفس لمجرد نجاح رابين فمن أين تأتي الطمأنينة إلى عرب لم يعرفوا رابين إلا مقاتلاً ضدهم، يوم كان في الجيش ثم يوم ترك العسكر إلى السياسة؟!
وما “قدمه” رابين حتى اليوم لم يرض حلفاءه الأميركيين، فمن أين له أن يرضي أعداءه العرب، بداية بالفلسطينيين الذين يعرفون جيداً إن قدرتهم على تحصيل حكم ذاتي مقبول مرتبطة بحجم التغطية والمساندة والدعم العربي لهم لمواجهة ذاتهم قبل مواجهة عدوهم.
وبغض النظر عن المبالغة المصرية المستفزة في الترحيب برابين واعتبار مجرد وصوله فتحا لباب “السلام” على مصراعيه، فإن مشاركة وزير الخارجية المصرية عمرو موسى في لقاء دمشق قد لا تكون إضافة وقد لا تعني تعزيزاً لصمود الصامدين ولرفض الرافضين الانفراد والتفرد والخروج على الآخرين.
فالموقف الرسمي المصري هو في أحسن الحالات “وسيط”، ولأنه من “أهل الرحم” فوساطته مؤذية، تماماً كتلك المساعي “الحميدة” التي يبذلها النظام المغربي، وكتلك المشاركة المجانية التي سبق أن تبرعت بها السعودية، والتي يمكن أن تكررها في وقت لاحق.
إن كل طرف بحاجة ماسة إلى الأطراف العربية الأخرى ذات العلاقة.
ولقد نضج الجميع، وعبر التجربة المرة، بما فيه الكفاية حتى لا يتورط أحدهم في التواطؤ على أخوانه لعله يشتري بجلودهم ما يوهمه بأنه حل لمشكلته التي لا يحلها إلا الاتفاق العربي.
فلا التطيمنات التي قدمت للبنانيين عن انتفاء المطامع الإسرائيلية في أرضهم وفي مياههم، تقنع طفلاً معاقاً بصحتها، ولا الحديث عن الاستعداد (؟!) لتنفيذ القرار 425 يمكنه الصمود للحظة تحت هدير الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تواصل دك الجنوب،
ولا الوعود المبهمة عن الاستعداد لإعطاء الفلسطينيين فوراً وبلا حساب (!!) تشكل ضمانة وسبباً لمعاركة الذات وإعلان الحرب على سائر العرب.
ولا الأحاديث الإسرائيلية عن “استئجار” الجولان، بعضها أو كلها، يمكن أن يقبلها “السوري” كدليل حسن نية،
هذا بينما تشييد المستوطنات يتواصل على قدم وساق، بعد اختراع فوارق وهمية بين “السياسية” منها و”الأمنية”، كأنما مثل هذا الجدل البيزنطي يسقط حق العرب في أرضهم لمجرد الادعاء إنها ضرورية لأمن الإسرائيلي المذعور وكأن العرب يملكون ما يملك من سلاح تقليدي وغير تقليدي.
لم يحن بعد زمن التفاوض الجدي، لا في العرض الكامل استدراجاً للمبادلة، ولا في التوسط النزيه طلباً لتسوية مقبولة من الطرفينز
ولدى العرب، على ضعفهم، من الأوراق ما لا يملكه عدوهم،
… هذا إذا تلاقوا على موقف قد يكون في نتائجه العملية أهم من كل الحروب،
ولعل الاتفاق في دمشق، في توقيته وفي استيعاب أطرافه لمجمل التطورات، يفتح الباب لبناء مثل هذا الموقف التضامني الحيوي والضروري للجميع، بمن في ذلك “الصديق” الأميركي.