صارت “اللعبة” مكررة ومعادة وممجوجة، وبرغم ذلك فإنها ما تزال “تبهرنا” وتستهوينا، وتلذنا وتشدنا إليها لاسباب تتصل بنا وبشيء من الميل إلى تعذيب الذات كامن فينا أكثر من اتصالها باللعبة نفسها أو بمهارة اللاعبين.
فكلما ارتكبت إسرائيل واحدة من جرائمها الكبرى، ضد العرب، في مختلف أقطارهمن أدخلتنا – بالتواطؤ مع أجهزة الأعلام الغربية – في دوامة عاصفة من الجدل والمناقشات “المبدئية” نخرج بنتيجتها معجبين أيما إعجاب بالتجربة الديموقراطية الرائدة وبالاحترام العظيم لحقوق الإنسان في الدولة التي قامت بالاغتصاب وعليه، وننسى شهداءنا والجرحى والخسائر الهائلة التي منينا بها على أيدي هؤلاء الديموقراطيين الأقذاذ.
وصحيح إن شوقنا عظيم إلى الديموقراطية المفتقدة في “دولنا” العربية العديدة، لكن هذا الشوق لا يجوز أن “يجير” لمصلحة العدو ولتزكيته على حساب دمنا المسفوح، خصوصاً وإن مثل هذه التزيكة لا تحل معضلتنا، وإن حل مشاكلنا مع الأنظمة الحاكمة بل المتحكمة بأقطارنا لن يأتينا جاهزاً من تل أبيب.
آخر النماذج “الناجحة” للعبة الإسرائيلية، المعادة، طريقة تعاطي إسرائيل ككل – حكومتها والكنيست، قوى المعارضة السياسية والجيش ثم القضاء – مع المذابح المنظمة في مخيمي صبرا وشاتيلا.
بدأ الأمر بمطالبة سرعان ما أخذت تتسع، داخلياً ودولياً، بضغط جثث النساء والأطفال والشيوخ المقطعة أوصالها، للتحقيق في أمر المذابح: من نظمها ، أو من سمح بها، ومن يتحمل المسؤولية عنها…
وتحول الموضوع، عبر معارضة بيغن “المتصلبة” لتشكيل لجنة تحقيق قضائية إلى قضية أخرى: غابت المجازر، والمسؤولية عنها، وصارت اللجنة هي القضية، وفي اللحظة المناسبة “تراجع” بيغن، برغم استمرار شارون في الاعتراض، وتم تشكيل اللجنة المهابة!
وسعد كثير منا بهذا الانتصار المؤزر، أما في العالم فاشتغلت “الجوقة” في أداء سيمفونية الديموقراطية الإسرائيلية الخالدة التي هي إحدى سمات المجتمع العصري والمتحضر المزروع في قلب صحراء التخلف والانحطاط والقهر العربية.
وعبر نشاطات اللجنة، والاستجوابات، وسماع الشهود، ومذكرات الإحضار والاستدعاء والجلب، وسائر الشكليات التي تضفي مزيداً من المهابة على لجنة كاهان، انغمسنا جميعاً في المتابعة انتظاراً للنهاية السعيدة لهذا الفيلم المتقن الإخراج.
وكما في أفلام هيتشكوك: استخدمت كل المؤثرات للإيحاء بأن نتائج تحقيقات اللجنة ستكون أخطر من أي تصور، حتى لقد اعتقد البعض أن قتلى المذابح سيبعثون أحياء!
وبعد أربعة شهور ونيف، بشرونا بقرب صدور “الحكم” على “الشرير” إحقاقاً للحق وتوكيداً لصورة إسرائيل، الدولة الديموقراطية النموذجية، وشعبها الحي، الغربي بقيمه وانتماءاته الفكرية.
وحين صدر التقرير، فعلاً، قبل أيام، لم يتذكر أحد عدد البؤساء الذين حصدتهم عاصفة الحقد الهمجي، في ظل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت المحاصرة.
وأعلن يوم نشر التقرير 9/2/1983، عيداً عالمياً وكعادتهم كان العرب في طليعة المحتفلين، خصوصاً وإن توصيات لجنة كاهان قد تضمنت “نصيحة” يؤدي تنفيذها إلى خروج أرييل شارون من وزارة الدفاع، وإحالة بعض كبار العسكريين والقيمين على بعض أجهزة المخابرات إلى وظائف أخرى.
ماذا يريد العجزة والقاعدون عن التحرير أكثر من هذا؟
وهكذا حقق بيغن نصراً سياسياً جديداً مكنه من أن يهزم “المعارضة” ثلاث مرات، ديموقراطياً، في الكنيست، ومن أن يبقي شارون في الحكومة، ثم في أن يعيده إلى ما كان فيه وأكثر (بالمعنى السياسي) وكان لا مذابح حصلت ولا دخل للإسرائيليين جميعاًن بمن فيهم أرييل شارون نفسه فيها، وبالتالي فلا مسؤولية عليهم ولا هم يحاسبون،
وحدهم أولئك ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا الأداة وسكين الجزار، هم الذين بقوا – أمام العالم – في قفص الاتهام، ومعهم مع الأسف لبنان وسائر العرب، الذين احترفوا منذ عهد بعيد مهنة الاقتتال والغدر ببعضهم البعض!! واللجوء إلى التصفية الجسدية لتصفية خلافاتهم السياسية أو الطائفية أو العشائرية أو حتى العاطفية”!!
أما اللعبة فمستمرة وكذلك الاعجاب العربي البالغ حد الانبهار،
هنا بعض النصوص التي تجيء في سياق الفصل الأخير، ويمكن استخدامها كتراب إضافي يهال على جثث اولئك الذين بقوا أياماً بلا قبور في صبرا وشاتيلا، كما يمكن استخدامها “وسائل إيضاح” للديموقراطية الإسرائيلية المجيدة التي تشكل الوجه الآخر المتمم للعسف أو القهر العربي المنظم:
*”تعيين شارون في اللجنة الأمنية واللجنة المشرفة على المفاوضات مع لبنان، داخل الحكومة يعتبر تحايلاً على نص توصيات لجنة كاهان وروحها”.
– حزب العمل الإسرائيلي –
*” استبقاء شارون في لجنة الدفاع يعد ازدراء لتوصيات كاهان وإهانة للرأي العام”
صحيفة هاآرتس – الإسرائيلة
*نقل عن مصادر وثيقة الصلة ببيغن إنه قال لبعض أصدقائه: “لقد بددت في الأشهر القليلة الماضية كل ما علق في أذهان البعض من أوهام في شأن إمكان أن يصبح شارون خليفتي”
-صحيفة جيروزاليم بوست – الإسرائيلية
*”استبقاء شارون في اللجنة الأمنية، سيتيح إمكان السيطرة عليه”.
صحيفة يديعوت أحرونوت – الإسرائيلية.
*”إعادة شارون أضاف إلى الإهانة الأولى إهانة أخرى”.
-حاييم بارليف – أمين عام حزب العمل
*”بيغن يخفف نتائج اللجنة تدريجياً بحيث لا يتبقى منها شيء ملموس”.
-حزب شينوي – الإسرائيلي –
*”لقد حولت الحكومة نتائج كاهان إلى موضوع للسخرية”.
-حركة “السلام الان” – الإسرائيلية –
ويبقى أن نقرأ الفاتحة مرتين:
مرة على أرواح الشهداء الذين قضوا داخل المخيمين، كما في العديد من البقاع الأخرى على امتداد الأرض اللبنانية التي اجتاحتها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ومرة على أرواح من تبقى حياً من العرب الذين يقبعون في أماكنهم منتظرين ما تتفضل به إسرائيل عليهم من دروس في الحرب وفي التنظيم وفي الحداثة كما في الديموقراطية وحقوق الإنسان!
… في انتظار أن يكسر العرب، وبأيديهم ، هذا الخيار البائس: بين الطاغية “العربي” والسفاح الإسرائيلي، ودائماً في ظل العناية الفائقة لـ “الشريف” الأميركي القادم من … تكساس!