للمرة الألف، تطرح قضية حرية الصحافة في لبنان،
وللمرة الألف تبذل المحاولات لإغراقنا جميعاً بالتفاصيل والشكليات، قانونية كانت أم إجرائية، تمهيداً لطمس القضية الأصلية.. بانتظار صدور المزيد من القوانين المكبلة، بل الملغية لهذه الحرية التي يصبح أي كلام عن الديمقراطية في غيابها لغواً وشقشقة لسان!
ولقد يبدو، للوهلة الأولى، وكأن صحافة لبنان مغرورة ومعجبة بنفسها ومبالغة في تقدير أهمية الدور الذي تلعبه محلياً وعربياً، لكن النظرة المتأنية تكشف مأساة الصحافة: إنها تمنح الآخرين الوهج والبريق والصيت العطر ولا تأخذ منهم غير تشوهاتهم وتفاهاتهم وعللهم، أو انحرافاتهم على حد تعبير الإمام الصدر.
إنها تزين هذا النظام الفريد، بعجزه وكساحه وطائفيته المقننة دستورياً، في نظر المواطنين “المتمتعين” بخيراته، وفي نظر الأخوة العرب المخدوعين ببريق الحرية اللفظية التي تمارسها الصحافة اللبنانية بنقد الحكام والرؤساء والمسؤولين والسخرية منهم!
وهي حرية لفظية لأنها – في الغالب الأعم – لا تمس المنتفعين الحقيقيين بالنظام من احتكاريين وسماسرة وتجار وممكنين للطائفية في الأرض وممولين لدكاكينها الأكثر من الهم على القلب.
والصحافة، حتى حين تنقد، تقدم خدمة جلى لمن تنتقدهم إذ تظهرهم بمظهر الديمقراطيين واسعي الفكر والصدر والأفق، المؤمنين بالحرية الدافعين ثمن ممارساتها بطيب خاطر.
لكن هذه الحرية تنتفي تماماً مع اقتراب الصحافة من مواضع الوجع، محلياً وعربياً، فتظهر القوانين المكبلة، ويبرز جلاوزة النظام لتأديب أولئك السذج الذين صدقوا حكاية الحرية فحاولوا توظيفها ضد الرجعية العربية مثلاً، أو المصارف، أو الاحتكاريين من أفراد أو شركات (الغندور، الترابة، قاديشا، بروتيين الخ)..
ومع ذلك لا يتعب أهل النظام والمنتفعون به من المن على الصحافة بهذه الحرية الحدودة!
ولا تتعب السلطة من محاولة كبح جماح هذه الحرية وتكبيلها بالقيود الإضافية، هذا في حين يتزايد مدى الحرية أمام المصارف والمصرفيين إلى حد تعريض الاقتصاد الوطني للخطر، لكن أحداً لا يعترض.. على العكس، يلتئم مجلس النواب بلمح البصر لإقرار ما يقنن “حق” السادة المصرفيين في زيادة مدى حريتهم!
وتمنح البورصة، إضافة إلى المصارف، الحرية والسرية بغير حدود،
وتترك للقادرين “حرية” استغلال حاجة المواطن وفقره في الانتخابات، عن طريق شراء ذمته وصوته وحق ادعاء تمثيل مصالحه،
… ولأصحاب النفوذ حرية تزوير الانتخابات، كل الانتخابات، بما في ذلك انتخاب الرؤساء، وضماناً لهذه “الحرية” وتدليلاً على وجودها تستخدم “المفاتيح” الطريفة والظريفة واللطيفة والمثيرة لضحك أهون منه البكاء!
كل نافذ حر،
كل ثري حر،
كل سمسار حر،
كل تاجر حر،
كل مرتبط بالأجنبي أو بالرجعية أو بالنافذين والأثرياء والسماسرة والتجار، حر،
والسلطة ترعى هذه الحرية وتحميها وتصونها بالحديد والنار،
أما الصحافة فهي وحدها الممنوعة من ممارسة حريتها، بالقانون أولاً، ثم برغبة الحاكم، وغالباً بمزاجه.
ومحظور عليها ممارسة حريتها حتى من أجل الصالح العام، حتى وهي تحقق بعض أهداف السلطة، وتنشر كلاماً لأطراف أساسيين في هذه السلطة، بشهادة ما وقع للصحافة بعد نشرها لكلام رئيس الحكومة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
وهنا يبدو ضرورياً تسجيل بعض الملاحظات على هامش الحكم الذي أصدرته محكمة المطبوعات أمس الأول بحق الدفعة الأولى من الصحف المحالة إلى المحاكمة الجماعية:
الملاحظة الأولى – إن الحكم الغيابي الذي قضى بحبس صحافة لبنان قبل شهرين، يتضمن حكماً وجاهياً على السلطة الشرعية ممثلة برئاسة الحكومة ينزع عنها شرط ممارسة السلطة وصفة الشرعية في ممارستها!
الملاحظة الثانية – إن هذا الحكم نفي لأهلية رئيس الحكومة، وحقه في أن يعلن ما أعلن، بغض النظر عن صحة ما أعلنه وعن ضرورة تعميم هذا الاعلان لدواعي السلامة الوطنية،
الملاحظة الثالثة – إن الذين أشاروا بإقامة الدعوى قد زجوا بالقضاء في قضية بحت سياسية، وتركوه يتعامل مع شكلياتها القانونية المجردة، علماً بأنهم – في النتيجة – سيتعاملون مع الحكم الصادر عنه تعاملاً سياسياً بحتاً،
الملاحظة الرابعة – إن الموقف كان في غاية الطرافة، إذ بدأ رشيد الصلح وكأنه الخصم والقاضي والشاهد والحكم والمدعي والمدعى عليه في آن!
فهو رئيس السلطة التنفيذية التي لها حق مخاطبة النيابة العامة وتوجيهها، والنيابة العامة هي التي أقامت الدعوة وتبنتها.
وهو، بالمقابل، مصدر الخبر موضوع الدعوى،
وهو، من ثم، الشاهد الرئيسي،
كما إنه بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، يفترض فيه أن يرعى تطبيق القوانين، ومنها قانون الجيش الشهير الذي حوكمت الصحافة بموجبه وأدينت،
وهو، أخيراً، بكلامه وناقلي كلامه، في قفص الاتهام!
وأين هي حرية الصحافة إذا كانت تنتفي وتندثر حتى في مثل هذه الظروف، ولمثل هذه التهمة: تقديم خدمة وطنية جلى بالقضاء على فتنة مدبرة، ومساعدة الدولة في إنقاذ البلاد من خطر داهم، وتدعيم وحدتها الوطنية المهيضة الجناح؟
ومرة أخرى، تجد الصحافة نفسها ملزمة بتأكيد جدارتها بحريتها عن طريق هدر حرية الصحافيين على مذبح السلطة وفي سجونها.
وبهذا المعنى فإن حريتها تخص كل مواطن، ويبدو سجانها سجاناً للوطن ولكل مواطن.