طلال سلمان

على الطريق عن لبنان والعروبة قبل أن يغيّروا أسماءنا!

… وبين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونه”، يكبر السؤال عن مصير لبنان، ناهيك بهويته وانتمائه القومي ومستقبل علاقاته مع أخوانه العرب، وقبل مع ذاته وفي ما بين بنيه إياهم.
ويكبر في الأفق، وبنسبة طردية، شبح الإقليمية الجديدة أو المجددة التي يمكن أن تسمى – تجاوزاً – “الانعزالية الوطنية”.
فلقد نشأت في لبنان، على امتداد سنوات الحرب الداخلية التي توجها الاحتلال الإسرائيلي إقليميات أو عصبيات جديدة تمثل حالة مرضية تهدد ما تبقى من حلم الوطن وسلامة العلاقات بين أبنائه. كانت في لبنان إقليمية واحدة، والآن فيه أنماط من الإقليميات والعصبيات بعضها جهوي وبعضها الآخر طائفي، وفيه ما يتجاوز “الشوفينية” ويلامس حدود العنصرية، والكل يتستر تحت لافتة ادعاء الوطنية والتميز بالفرادة المطلقة.
لقد قطعت الحرب أوصال الوطنن وكادت تذهب بصلة الرحم بين أبنائه مقسمة مشاعرهم وفق نكباتهم، فالبعض شياحي، نسبة إلى الشياح، وبعض آخر، “عين رماني”، نبعاوي، أو دكواني أو سن فيلي، وحلاوي أو بعلبكي، بشراوي، أو زغرتاوي، بعل محسني أو باب تباني الخ!!!
وأضاف الاحتلال الإسرائيلي عصبيات جديدة، إذ أحسن الجنوبي في لحظة أنه غير البيروتي، ثم أحس البيروتي الغرباوي أنه غير البيروتي الشرقاوي، واليوم بالذات، تستشعر نسبة كبرى من لبنانيين الأطراف مرارة قاسية لإحساسهم بالعزلة وسقوطهم من ذاكرة أخوانهم في سائر المناطق ولاسيما أهل سرايات الحكم.
لقد صار لبنان مجسماً للوطن العربي الكبير حيث سادت في فترة التردي والتراجع التي شهدتها سنوات ما بعد حرب 1973 المضيعة نتائجها، ثما ما بعد الصلح المنفرد، إقليميات وعصبيات جديدة مرضية عموماً وعدائية تجاه الأقربين.
بين هذه الإقليميات ما يمتد بجذوره إلى العصبية الطائفية، وبينها ما يتخذ منطلقه النفط أو الغاز والحرص على الاستئثار بالثروة وأبعاد طمع الفقراء بها، وبينها ما يغلف بالمزايدة الوطنية، عنصرية تعهدها الاستعمار بالرعاية ثم فشلت الحركة الاستقلالية (والقومية) في توفير الحل الصحي والحاسم لها فعادت تطل برأسها بعد هزيمة 1967 واضعة نفسها سمة لعصر التردي والسقوط المريع.
لقد ضعفت فكرة العروبة وأصابها الوهن نتيجة الممارسات الشنيعة للأنظمة التي ادعت تمثيلها وتجسيدها، إذ سحبت هذه الأنظمة البائسة من صيد الفكرة حتى كادت تستنفده، ومع ضعف الفكرة واهتزاز ثقة الناس بها، انكفأت الأنظمة على أعقابها، أو هي كشفت عن طبيعتها الإقليمية أي عن انحرافها الوطني والقومي.
أي إنها “رمت العروبة بدائها وانسلت…”
وهكذا يكون التاريخ قد دار دورة كاملة،
ذلك إن لبنان كان أحد المراكز الرئيسية لانطلاق العروبة فكرة وعقيدة ودعوة إلى تغيير الواقع السياسي (والثقافي – الاجتماعي – الاقتصادي) في المنطقة.
ولقد ساهم اللبناني مع السوري والفلسطيني والعراقي ثم المصري في بلورة الفكرة وإغناء مضمونها وتحديده بدقة تجعلها شيئاً آخر غير الإسلام وغير المسيحية وإن كان فيها الكثير من روحهما وخصائصهما،
وصحيح إن لبنان لعب دوراً مميزاً في إقناع العرب بفكرة العروبة، لكن بعض العرب أخذوا – ومع الأسف الشديد – أسوأ ما في واقع لبنان السياسي وتركوا، أعظم ما ساهم في إنتاجه، بفضل تنوع مناخاته الثقافية وتقدمه.
لقد كانت العروبة، في البداية، علاجاً للجراح والأمراض التي خلفتها الحقبة الاستعمارية في الجسد اللبناني (والعربي)، ومن أسف أن بعض الأنظمة العربية قد أوسعت العروبة ذاتها تجريحاً وتشويهاً حتى باتت مرذولة وتحولت إلى إحدى حالتين: واقع دكتاتوري مفروض ومرفوض، أو فكرة مبهمة تبدو أقرب ما تكون إلى الطوباوية أو الحالة الذهنية المجردة.
والعروبة ليست كذلك،
العروبة هي الرسالة – السيف التي فتح بها اللبناني (والمسيحي أساساً) دنيا العرب مع مطلع القرن، وهي التي أعطته مكانة مميزة في كل هذه المنطقة، وجعلته في مرتبة متقدمة، عن رضى واقتناع وامتنان للأخ الأصغر الأكثر استنارة.
أما العيوب التي ترمى بها العروبة فهي عيوب الأنظمة التي تدعي تمثيلها، وهذه العيوب الفظيعة هي التي تحول الوطني في لبنان من مناضل إلى إنسان مشكوك في ولائه، وتعطي المتعامل مع الأجنبي – بما في ذلك إسرائيل – القدرة على ادعاء احتكار الوطن والوطنية.
وليست العروبة تبعية أو عمالة. ليست الآخر، العروبة أنت، أما الحاكم فهو السلطة، التي لا تعني في الغالب الأعم غير القهر والعسف والانحراف والتفريط بالتراب الوطني.
أنت بعض العروبة ومنها، يمينياً كنت أم يسارياً، شيوعياً أم كتائبياً، أنت نمط من أنماط الرأي والاجتهاد داخل المجتمع الواحد، حتى إذا خرجت عليه وخرجت منه إلى عدوه فقدت الانتماء وحق الرعاية، فلست أنت مصدرها ومنطلقها، ولكنك من نتاج صراعها مع القوى الأخرى ومع روح العصر وبخاصة مع ترسبات دهور القهر الاستعماري والتخلف.
أنت العروبة، أنت ، بشوقك إلى غد أفضل، بطموحك لأن تمارس وجودك في هذه الدنيا الواسعة، بحرية كاملة تطلق فيها كفاءتك وخبراتك فتأخذ بقدر جهدك، لا تمنعك حدود ولا سدود ولا أجهزة قمع تقتل العروبة فيك حماية للنظام وتوكيداً لالتفاف الجماهير من حوله!
أنت العروبة، وليس في أي حاكم من العروبة أكثر مما فيك، بل العكس هو الصحيح.
أنت المسطرة والمقياس وليس هو.. ثق بنفسك وبقدراتك فيتغير كل ما حولك، وتمد “خلدة اللبنانية” ظلها إلى ما وراء “الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، وإلا صار العكس، ووجدت من قهروا أهل الخالصة واسمها، في غرفة نومك يغيرون كل ما فيك وعندك حتى أسماء أطفالك.
قف واستنهض “زعماءك” والقيادات، طالبهم، حاسبهم، فما حاجتك إليهم غداً إذا ما تخلوا عنك في أيام الموت الصعبة هنا؟!
لن يأتيك علاج سحري من الخارج، وحتى ما يمكن أن يجيئك من خير لن يأتيك إلا إذا كنت قادراً على أخذه.
والطريق طويل جداً، ولكن لا بد من بداية، والبداية خطوة أولى، فمن يخطوها؟!

Exit mobile version