لكل قمة عربية مزادها أو “سوق الحراج” الخاص بها،
هناك دائماً “البائع” و”الشاري” و”المسوّق” و”السمسار”، وغالباُ ما ينزل إلى الحلبة “شريك مضارب” أو أكثر،
وفي بعض الحالات قد يعمد صاحب المصلحة في انعقاد القمة إلى استئجار “المروجين” و”الهتيفة” وأيضاً إلى تعيين بعض “المعارضين” شكلاً لتلغيم صف المعارضين الفعليين ومضمون اعتراضهم، متى وجد،
وثمة جمهور دائم متحمسوجاهز لحضور أية قمة، تحت أية لافتة وفي أية عاصمة، يضم في صفوفه الرؤساء الفقراء (شخصياً) ورؤساء “الدول” الفقيرة عزوماً… فالقمة بالنسبة لهؤلاء موسم خير، لاسيما إذا كان الطرف الداعي “نفطياً” أو كان “المحرض” والمكلف بترتيب القمة نفطياً وإن تخلى عن الواجهة لهذا أو ذاك من ملوك التسويق والترويج كالحسن الثاني والحسين الأول أو من يعادلهما.
ومن زمان كف “العرب” عن التنادي لعقد قمة متى اقتضت مصالحهم القومية ذلك، أو تلبية نداء الملهوف منهم أو من يستشعر خطراً جدياً على قطره أو على الأمة بمجموعها،
فلقد انفكت “العروة الوثقى” وتشتت العرب كيانات وأنظمة متحاربة ومتقاطعة ومتخاصمة ومجالس جهوية و”كيدية” – أي بكيد كل منها للآخرين – هدفها محاصرة “الغير” أو الهرب بالثروة من طمع الأخوة الفقراء الشرهين الحاسدين… حماك الله من شر حاسد إذا حسد!
القمة العربية في هذا العصر الأميركي – الإسرائيلي تعقد، في الغالب الأعم، تلبية لطلب أميركي أو تبرعاً لتسهيل مهمة واشنطن في “إقناع” الإسرائيليين بقبول قدر معلوم من التنازلات العربية الإضافية ثمناً للتسوية العتيدة.
بعد كل قمة يخسر العرب، كأمة، المزيد من كرامتهم ومن مكانتهم ومن حقوقهم المشروعة في أراضيهم، ويخسرون – وهذا هو الأهم – بعض مستقبلهم، إذ أنهم يصادرون إرادة أجيالهم الآتية وقدراتهم وواجبهم في النضال من أجل غدهم الأفضل.
على إن الملوك والرؤساء والسلاطين والأمراء والشيوخ يخرجون ولله الحمد من كل قمة جديدة وقد ربحوا عمراً جديداً… تماماً كما إن نواب لبنان لا يلتقون إلا من أجل إطالة عمر مجلسهم الكريم (وكأنهم يفترضون إنه آخر المجالس النيابية وإنه باق إلى الأبد، أي إلى وفاة آخر عضو فيه، مد الله في اجالهم جميعاً)..
مهمة القمة، في هذا العصر، ضبط خطوات أعضائها، بتلاوينهم المختلفة، وفق مقتضيات “المصالح المشتركة” بين العرب من جهة وبين الأميركيين (والإسرائيليين) من الجهة الأخرى،
وهكذا فمهمة القمة الحديثة كمهمة السجن القديمة: تهذيب وإصلاح،
أحياناً يكون أمر العمليات : سيروا بخطى أسرعكم وأعظمكم حماسة!! وأحياناً يكون المطلوب هو النقيض تماماً أي التباطؤ والسير بخطى الأضعف والمتخلف… وإلا كيف يتحقق الإجماع، فلا يكون رافض أو معترض أو متحفظ ولو بالامتناع عن التوقيع وإنابة “وزيره” لكي يوقع عنه ثم يخلعه عند العودة بحجة مخالفة التعليمات؟!
مع ذلك فالمواطن العربي مع القمة من حيث المبدأ، إذ يأمل من أية قمة أن تلطف الجو في ما بين قادته وأولي الأمروالمتحكمين بمصيره ومعاشه، بحيث تزيد – نسبياً – مساحة حركته وتتناقض القيود على التنقل والسفر والتفكير والأحلام بمختلف أشكالها، وصولاً إلى أحلام اليقظة!
وللقمة دائماً عناوين لمبررات انعقادها لا تعكس حقيقة الغرض منها،
فقمة الرد على الهزيمة تعني التواطؤ على إخفاء نتائجها، وقمة مواجهة العدوان تعني استرضاء المعتدي حتى لا تطال عملياته مناطق أخرى، وقمة ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان تتبنى شعاراً مضللاً مثل “الأرض مقابل السلام”، الذي يصور إسرائيل وكأنها طالبة سلام تفتديه بالغالي والرخيص! وهل أغلى من الأرض،
وحدها مشاريع القمم التي كان لها مبررات واضحة لم تعقد، تحاشياً لإغضاب واشنطن وتجنباً للانتقام الإسرائيلي (أبرز الأمثلة الاعتداء الأميركي المسلح على الجماهيرية العربية الليبية ومحاولة اغتيال قائدها معمر القذافي بقصف منزله العائلي)…
ما علينا، لنتحدث عما هو بين أيدينا.
مؤكد إن ثمة حاجة ملحة إلى قمة عربية، فالتحولات الهائلة التي تجتاح العالم بحاجة على وقفة مطولة لكي يتبين “العرب” إن كان لهم بعد مكان في عالم الغد أم سيشطبون منه، كأمة لها حقوقها ولها مصالحها المشروعة، ويبقون مجرد “بياعين كاز” ويد عاملة رخيصة تباع في سوق النخاسة الحديثة.
ثم إن التهجير الأميركي المنظم ليهود الاتحاد السوفياتي إلى الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وما حولها، يستحق موقفاً صريحاً يعلنه “الضحايا العرب”، ولو بالتوجع أو برفع الظلامة إلى واشنطن وسائر عواصم الغرب،
فليس سراً أن بعض القيادات العربية تبرز جانباً واحداً من هذا الموضوع الخطير لكي تنسف آخر ما تبقى من ركائز لعلاقة الصداقة بين العرب والسوفيات، ولكي تسلم المنطقة من ثم صافية بغير شائبة إلى أسياد العصر في واشنطن،
ومع عدم إغفال مسؤولية القيادة السوفياتية الجديدة عن هذا العدوان الدولي الجديد والمنظم على العرب، فإن أعلى الأصوات في التنديد بالمسلك العدائي السوفياتي تعود إلى أولئك الذين كانوا وما زالوا يرفضون العلاقة السياسية مع موسكو في حين لا يرفضون أن يبيعوها بعض قمحهم الدعائي.
وفي الأخبار إن المملكة العربية السعودية قد باعت السوفيات من قمحها المنتج محلياً 0,3 مليون طن في العام الماضي!!
وفي الأخبار أيضاً إن السعودية تقوم بدور “السمسار” أو “المسوق” لكميات من الذهب السوفياتي في السوق العالمي.. الحر!!
ما علينا، لنعد إلى الموضوع،
والموضوع: القمة وجدول أعمالها المفترض، وهو مثقل.
فإضافة إلى قضية فلسطين التي تذوب وتخسر بعض وزنها وبعض قداستها في كل قمة، حتى كادت تضمحل لولا الانتفاضة المجيدة في الأرض المحتلة،
وإضافة إلى قضية لبنان وحربه الأهلية المفتوحة التي تكاد تقضي عليه مهددة بعدواها المدمرة العديد من الأقطار العربية بما في ذلك مصر التي كانت الحصن الأخير في وجه الفتن الطائفية ومحاولات التفتيت وضرب ركائز الوحدة الوطنية وفكرة الدولة المركزية باستخدام التطرف الديني سلاحاً.
هناك مسألة التهديد الإسرائيلي (والغربي عموماً) للعراق، والتكبير المريب لقدراته العسكرية وضرورة “لجمها” حتى لا تكون مصدر خطر – ذات يوم – على إسرائيل ومشاريعها التوسعية.
ثم هناك حملة التشهير المنظمة المفتوحة والمستمرة ضد سوريا والجماهيرية العربية الليبية واللبنانيين والفلسطينيين تحت لافتة “مكافحة الإرهاب”، (وغداً تحت لافتة مكافحة المخدرات، كما يقال).
وهناك هناك ألف سبب آخر لانعقاد القمة فوراً، ولكن هناك ألف سؤال عن: أين وكيف وضمن أية شروط وتحت أي عنوان الخ.
فالقمة كما يطلبها البعض ليست إطاراً للتضامن العربي، في وجه مخاطر تتهدد المصير القومي، بل محاولة لمحاصرة “الخصم” العربي وعزله أو لتشهر به باعتباره ناسفاً لإجماع ومعطله، وذلك عن طريق تظاهرة ضد الأخ الشقيق وليس ضد العدو الطامع.
والقمة كما يعمل لها البعض الآخر صفقة تنازل جديدة عن مزيد من الحقوق العربية للمحتل الإسرائيلي، بحجة استمالة الصديق الأميركي إلى جانب الحق العربي وفصله عن “حليفه الاستراتيجي” الصهيوني.
والقمة كما يريدها بعض ثالث إعلان توبة يجهر بها الذين اعترضوا على كمب ديفيد والصلح المنفرد، وإعادة اعتبار إلى “رائد” مسيرة السلام الظافرة طيب الذكر أنور السادات!
وهناك بعض رابع من محترفي الهمس وبذل المساعي الحميدة يهب “للنجدة” كلما برزت إشكالات أو مصاعب، فيعرض تذليلها مقابل بعض التغيير أو التحوير، في مبررات القمة وفي استهدافاتها المنشودة.
وهكذا تنعقد القمة، متى انعقدت، لأسباب أخرى بعيدة تماماً عن تلك التي أطلقها أصحاب الدعوة غليها، وتنتهي بنتائج متناقضة تماماً مع تلك التي يتوقعها المواطن منها.
وأحياناً يتم استرضاء أصحاب الدعوة وهم في زخم حماستهم وترويجهم للقمة، فيصرفون النظر عنها، ويكفي الله المؤمنين شر القتال بوساطة الخير السعودية… وهكذا ينتهي البازار وقد قضى كل طرف وطره، وسبحان الله قاضي الحاجات ومحقق الأحلام والأمنيات!
للمناسبة: في مجال تعديد العمل القومي وتوكيد التضامن العربي عمدت المملكة العربية السعودية إلى إغراق السوق بنفطها العزيز مما “كسر” السعر العالمي، وجعل المستوردين (وأولهم الولايات المتحدة الأميركية) يزدادون تحكماً بالمنتجينن مما ضرب المداخيل المقدرة في بعض الأقطار العربية الشقيقة وزعزع أوضاعها الاقتصادية لأنها كانت أعدت موازناتها على أساس توقع ارتفاع مؤكد في أسعار النفط فإذا بالكرم السعودي يجعله ينهار.
لكن هذا الكرم العربي الأصيل موضع فخار قومي إذ يؤكد حرص العرب على حركة التقدم والنهوض الإنساني والتطورالحضاري.. خارج أقطارهم!
وفي انتظار الجديد من أخبار القمة العتيدة نتمنى لكم أطيب الأوقات!
كاسك يا تلفزيون!
*أليس ملفتاً أن تتزايد الاعلانات التجارية على شاشات التلفزيون بنسبة طردية مع تزايد خطورة التفجير الأمني وتزايد عدد ضحاياه وحجم الخسائر الناجمة عنه؟!
الكارثة واحدة، لكن عرضها يتناقض بين شاشة وأخرى،
والاعلانات واحدة، وهي في الغالب الأعم عن أصناف من المشروبات الروحية والسجاير والكماليات عموماً، وإن اختلف توقيت عرضها كفواصل بين الأخبار – الفواجع!
المعلن يستثمر الموت!
… وهو يغري اللبنانيين بأن يستمروا في حربهم الأهلية طالما توفرت المشروبات وسائر الوسائل لتخفيف عذاباتهم الدنيوية وتسهيل انتقالهم – بغير ألم – إلى دار البقاء!
كاسك! وإلى اللقاء في جنات النعيم أيها الشهيد مع وقف التنفيذ، حتى إشعار آخر!
المال للهدم فقط؟!
*بعد ستة أشهر من ولادة اتفاق الطائف وقيام عهده في لبنان، ما زال الحكم ينتظر إنجاز الوعود والتعهدات القاطعة بدعمه بغير حدود!
وبغض النظر عن كل ما يقال في الحكم وأشخاص المشاركين فيه (وعن صفقاتهم) فإن أسوأ من أسوأ من فيه هم الذين نكثوا بتعهداتهم فلم يقدموا لهذا البلد الجريح الحد الأدنى من المساعدة الضرورية لكي يبقى شعبه حياً.. وفيه!
أليس ملفتاً أن يكون بعض القادة العرب دقيقاً في التزاماته بمساعدة الميليشيات الطائفية ومستمراً في تأمينها، برغم الضائقة الاقتصادية العامة، في حين يكسر يده ويشحذ عليها متى جاءته الدولة في لبنان مستعطفة ومستعطية ما يبقيها على قيد الحياة!
كأن بعض المال العربي مخصص لتهديم الدولة في لبنان ولمنع قيامها،
هل هذا مجرد مزاج عكر يجتاح بعض الحكام العرب أم إنه قرار أميركي – إسرائيلي يموه باشتراط وقف الحرب وإنهاء الانقسام في لبنان كشرط لمساعدة شعبه المهدد بالانقراض؟!
لعل القمة العتيدة تنفحنا الجواب المنشود فتطمئننا إلى غدنا المجهول!!
وسلفاً يمكنك “تسميح” المقاطع المؤثرة في بيانها الختامي عن مأساة لبنان وعن آلام شعبه الشقيق وضرورة مساعدته العاجلة والحاسمة!
إن خانتك الذاكرة راجع أي بيان للجنة العربية العليا أو لأي من التوجيهات الملكية السامية التي أعلنت في الطائف!
موت قاهر الزمن!
*”يأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة،
“ولا تدري نفس باي أرض تموت”…
“سبحان الحي الذي لا يموت”…
لعل كثيرين استذكروا هذه الآيات الكريمة مع سماعهم للنبأ الصاعق: وفاة أبي القاسم محمد محمود.
فمحمد حمود، الذي انسحب إلى لندن مع بداية الحرب الأهلية، وتابع تحقيق نجاحاته هناك، في مختلف مجالات المال والأعمال، كان يبدو وكأنه “قاهر للزمان”… تمضي السنون فلا تبيض شعرة في مفرقه، ولا تظهر تجعيدة فوق صفحة وجهه، ولا يخلف هم البعد عن الأهل والوطن أثراً للسهاد أو الأرق في العينين المحصنتين بالنظارتين الأنيقتين.
قبل أسبوع كان في بيروت، يدور على أصدقائه أو يتصل بمن تعذرت عليه زيارته، ويطمئن على من انقطعت عنه أخباره.
ثم قصد دمشق، كعادته كلما جاء إلى وطنه زائراً، فاطمأن على أصدقائه ومعارفه جميعأً، وضرب المواعيد للقاء جديد بعد عودته من “رحلة عمل قصيرة”.
انتهى المشوار بأبي قاسم في جنيف، ورحل ولن يعود،
لكن ثمة تساؤلات عن “سر” الوفاة وظروفها، وهل هي من فعل فاعل أم نتيجة لسكتة قلبية.
الموت حق، ولكن القتل جريمة،
فهل من جهة معنية بإعلان الحقيقة، أم يكون “محمد حمود” قد قضى غريباً في فندق وذهب السر معه؟!
لمن نتوجه؟!
لا أحد، فقط لله بطلب الرحمة لهذا الرجل الناجح الذي عاش غريباً ومات غريباً وفي ظروف غريبة.