عشية الذكرى الثامنة والعشرين لأعز انتصار قومي في تاريخ العرب الحديث ممثلاً بقيام الجمهورية العربية المتحدة كأول دولة للوحدة وبقيادة بطل النهضة العربية المعاصرة جمال عبد الناصر، يعيش العرب عموماً حالة تمزق مخيف بين الماضي – الحلم وحاضرهم – الكابوس ومستقبلهم المعلق على كف أعداء أمانيهم ووجودهم وحقهم في الحياة كبشر ذوي كرامة.
يكفي أن يتأمل المرء واقع الحال في بيروت التي وإن بقيت خارج دولة الوحدة إلا أنها كانت قصيدتها وربابها والمغني، جمهورها وساحتها وحامل الراية والمبشر بغد العزة والحرية والتقدم، لندرك كم هو مرعب ووحشي وغير مقعول حجم التأخر والانهيار والتردي الذي دفعت إليه هذه الأمة وتكاد تقتل تحت أثقال وطأته.
فبيروت، الأميرة العربية البهية، المنتدى والصحيفة والتظاهرة والكتاب، حاضنة الأفكار والمفكرين ومطلقة إبداعهم ومعممة الدعوة إلى الاستيقاظ والصحوة البكر، بيروت هذه مهيضة الجناح اليوم، مثخنة بالجراح مثقلة الروح بوقائع الانحراف والضياع وافتقاد الدليل إلى طريق الخلاص.
وماذا أقسى على قلب بيروت وروحها من أن تخط يد ضال أو مضلل على جدرانها شعاراً فاحشاً في تزوير وقائع الحياة وأساسيات النضال الوطني والقومي مثل “لا لإسرائيل” لا للعروبة، نعم للإسلام”!
أي إسلام هو هذا الذي يساوي بين إسرائيل والعروبة؟! وماذا يعني لبنان بلا عروبة إلا كيان متصهين يحكمه صهاينة الداخل مع صهاينة الخارج، على حساب أهله والعرب والمسلمين جميعاً؟
بل أي إسلام هو هذا الذي يجد نفسه مكتمل التكوين سوي المضمون والمحتوى وهو يوضع في موضع العداء للعروبة؟!
فالنصر في لبنان يكون بالعروبة ولها، وكذا في أي قطر عربي، والقتال الحق يكون بالعروبة، فكر وعقيدة وصيغة حياة.. أما اقتتال رفاق السلاح فيجير نصراً لأعداء العروبة والإسلام.
ثم، ماذا أقسى على قلب بيروت وروحها من أن ترى نفسها معزولة، لهذا السبب أو ذاك، عن المعركة الوطنية والقومية الأشرف، معركة مواجهة العدو الصهيوني، التي تكاد تخرج من طبيعتها الأصلية لتصور وكأنها معركة بين “الجنوبيين” وحدهم وبين “الإسرائيليين”، أو بين أتباع هذا أو ذاك من التنظيمات السياسية شبه الطائفية وبين العدو القومي للأمة العربية كلها؟
… وماذا أقسى على قلب بيروت وروحها من أن ترى رفاق السلاح وأبناء القضية الواحدة يندفعون متباعدين عن بعضهم البعض إلى حد التصادم بالسلاح والاقتتال بذريعة الاختلاف في الاجتهادات الفكرية أو في تحديد المرتكزات السياسية لمعركة التحرير وأدواتها وأساليبها والشعارات؟!
كأنما اقتتال حركة “أمل” والشيوعيين، مثلاً، في بيروت أو في الجنوب أو على الطريق بينهما، يقرب موعد التحرير، أو يعزز من صمود الجنوبيين ولبنان عموماً في وجه العدو الإسرائيلي؟!
أو كأنما رفع شعار “الجمهورية الإسلامية في لبنان” وفي هذا الوقت بالذات، يزيد من لحمة اللبنانيين ومن تعبئتهم وحشد طاقاتهم (الضعيفة والمستنزفة أصلاً)، لتأمين مواجهة أعظم وأفعل للعدو القومي والحضاري لهذه الأمة بكل أقطارها، وللبنان منها على وجه التخصيص، سيما وإن أرضه محتلة بعد ومعركته مع المحتل مفتوحة وتحتاج كل جهد وأي جهد!
ومع الاحترام الكامل لأصحاب وجهة النظر القائلة باقتباس نموذج الثورة الإسلامية في إيران وتعميمه، فمن الضروري إعادة التذكير ببعض الحقائق الأساسية التي كادت تختفي في زحمة حرب الشعارات المدوية والتي تقترب من خطر التحول إلى مطاردات ومصادمات دامية تشعل حرباً أهلية في كل قرية وشارع من مدينة…
بين تلك الحقائق:
1 – إن طبيعة لبنان لا تسمح بسيادة دين على دين أو طائفة على طائفة، ومن هنا فالبحث دائم عن صيغة تسوية سياسية تسحب من التداول حقوق الطوائف وامتيازاتها لمصلحة المواطن وحقه في حياة كريمة.
2 – إن المعركة في لبنان كانت دائماً سياسية، وكان الطائفيون والمتاجرون بالطائفية والمنتفعون بها يحاولون باستمرار تزويرها لتبدو طائفية حتى تستمر الهيمنة للمهيمن وكان الهيمنة حق أو ضمانة وجود للأقلية في وجه الأكثرية.
3 – إن الطائفية مؤسسة عاتية وعريقة في لبنان، على قاعدتها أقام الأجنبي الكيان وأقام المستفيد المحلي النظام، والمعركة ضد هذه المؤسسة المرتبطة حتماً بالأجنبي وبالعدو الإسرائيلي وبرموز التخلف والقهر العربي عموماً تستدعي حشد صفوف الوطنيين والقوميين والتقدميين وكل المتضررين من ظلم الطائفية والطائفيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية… إنها معركة المظلومين ضد الظالمين، المحكومين ضد المتحكمين المحرومين ضد الحارمين، أبناء حلم الحرية والغد الأفضل ضد الطغاة ومحتقري كرامة الإنسان واللاغين إنسانيته ذاتها.
4 – إن أهم شعارات المعركة الراهنة في لبنان هو توكيد انتمائه القومي وهويته العربية، وإسقاط ذلك الشعار الصهيوني الذي يقول بجعله “وطناً قومياً” لإتباع هذا الدين أو ذاك، ومن الطبيعي أن رفع شعار “إسلامي” لا ينفع إلا في تبرير الشعار “المسيحي” وكلاهما يلغي الوطن والمواطن ومعهما الدين… فإسرائيل ليست هي الدين وليست اليهودي بل هي قلعة الإمبريالية والمصالح الغربية متسترة بشعارات دينية وإسقاطات معاصرة لأساطير وخرافات بائدة عن شعب الله المختار و”حقوقه” في أرض الميعاد المرشحة للتمدد بحسب القدرة على التوسع بقوة السلاح… الأميركي!
وتجربة الكتائب ثم “القوات اللبنانية” من بعدها أثبتت فشل سياسة الفرض والقهر وتعميم المنطق المغلوط الواحد حتى ضمن بيئة “اللون الطائفي الواحد”، فلماذا إعادة تكرار الفشل والإخفاق الدموي، خصوصاً وإن المعركة غير المبررة التي تفرض على الناس في بيروت كما في الجنوب تخصم من قدراتهم ومن طاقاتهم وإمكاناتهم المحدودة الواجب توفيرها لمواجهة العدو الصهيوني المتمادي في سياسة قمعه المسماة بـ “القبضة الحديدية” أو “سياسة الأرض المحروقة”!!
أيجوز أن يحرق الإسرائيلي أرضنا وقرانا، ثم نندفع نحن إلى إحراق أنفسنا وأخوتنا في أتون الاقتتال الداخلي الذي لا يفيد لا في نصرة فكرة ولا في تأكيد سلامة توجه أو متانة إيمان، فالامتحان الحقيقي لهذا كله – وبالنار – يكون على خط النار الوحيد في الأرض المحتلة وليس خارجها.
إن الصراع الفكري ضرورة وليس فقط مطلباً لهذا التيار (أو التنظيم) أو ذاك،
والصراع السياسي مطلب، بل لعله الآن وفي ظل هيمنة السلاح والمسلحين ومنطق الفرض بقوة السلاح، أمنية عزيزة على قلوب اللبنانيين جميعاً، ومعهم سائر العرب.
والاقتتال ليس جهاداً، بأي حال، بل هو استنزاف للمجاهدين في غير ساح الجهاد الحق.
كذلك فالاغتيالات وعمليات الاعتقال والدهم والمحاصرة والمطاردة والخطف، وما تبقى من أشكال الفرض والقهر، ليست من وسائل الصراع السياسي ولا تفيد إلا في تدميره وتدمير البلاد وتفتيت ما تبقى من قدرات شعبها وإمكانات صموده.
لم يفد الاغتيال مرة في تأمين النصر لفكرة أو لمبدأ أو لعقيدة، بل هو إساءة إلى شرف الرسالة وإيذاء مباشر للفكر والمبدأ والعقيدة.
وأصحاب الرسالات والعقائد والأفكار التي كتب لها الخلود تعرضوا للإيذاء ولمحاولات الاغتيال، فكانوا ضحاياها ولم يكونوا بأي حال الجلادينز
وفي اللحظة السياسية الراهنة فإن هذا الذي تشهده بيروت ومناطق أخرى من لبنان، والجنوب بالذات، إنما يمكن – بعد إسرائيل – للطائفية وللطائفيين، وللحكم الذي يتصرف وكأنه استعاد زمام المبادرة، نتيجة تعويمه طائفياً، فانطلق يحاول من جديد تدويل الأزمة في لبنان وإسقاط مشروع الحل الوطني لها عن طريق اعتماد الخيار العربي.
إن الشعارات المتطرفة، ذات الصبغة الدينية أو الطائفية، لا تخدم أصحاب الفكرة، وإنما تخدم أصحاب السلطة ومن هم في موقع القوة وفي مركز القرار من الطائفيين والمنتفعين من اللغو بالشعارات الطائفية للتمكين لهيمنتهم الطائفية.. وهي فعلية وليست في موقع التمني!
إن المعركة وطنية وقومية بطبيعتها، والاقتتال ليس قتالاً من أجل النصر، بل هو قتال ضده…
وكلما تأكدت هذه الطبيعة تنامى أمل الوطنيين والقوميين والتقدميين في إحراز النصر فيها.
أما حين ينساق الناس إلى ملعب الطائفيين، وبشعاراتهم، ولو من موقع الضد، فإن فرصة الفوز أمام الوطنيين تتضاءل حتى تنعدم لينفتح الباب مجدداً أمام الطائفية والطائفيين ليكسبوا معركة كانوا قاب قوسين أو أدنى من أن يخسروها تماماً ويخسرها معهم العدو المحتل الباقي في الجنوب حتى نقرر إجلااءه..
وليس بالطائفية يكون الإجلاء،
بل إن الطائفية والطائفيين والمتاجرين بالطائفية والحاكمين أو المتحكمين باسمها لا بد أن يكونوا بين “القوى” التي سيفرض عليها أن تجلو، لنستعيد حلم الوطن في لبنان، وحلم الأمة الواحدة على مستوى الوطن العربي الكبير والواحد… ولو كره الحاكمون!