طلال سلمان

على الطريق عمان في رياح الحدث العراقي: مَن عطل الحل ولماذا؟!

أمضى رئيس التحرير ثلاثة أيام في عمان حيث ألقى محاضرة عن “لبنان والوضع العربي – مخاطر وتحديات” بدعوة من “مؤسسة عبد الحميد شومان”.
ولقد كانت فرصة للاقتراب من مركز “الحدث العراقي” ولسماع الأصداء والهواجس والتمنيات والمطامح، ففي عمان تتكاثف وتتقاطع هذه جميعاً بما يسهل القراءة والاستشراف.
هذه حصيلة مناقشات امتدت على مدار الساعة في العاصمة المهمومة، وشملت العديد من المثقفين والكتاب والصحافيين وأصحاب التجربة من قدامى الحزبيين والسياسيين بينهم بعض الرسميين.
لكأنما في مرصد أو مختبر! فعمان فلسطينية بقدر ما هي أردنيةن والرياح الإسرائيلية تمرق في جنباتها بلا انقطاع فتمنعها من أن تنسى… ودمشق على مرمى حجر، مثل الضفة التي تكاد تسمع في عمان أنفاسها، ثم أن لبغداد حضورها الثقيل، لاسيما بعد الحرب العراقية – الإيرانية التي جعلت عمان قاعدة خلفية وخط إمداد حيوي، وربطتها بالدينار العراقي في صعوده وهبوطه.
ربما لهذا تحس في اللغة السياسية نبرة “عراقية” وتستشعر حيثما جلست أن “الهوى” عراقي. ولا تذكر الكويت، وبالذات أسرتها الحاكمة المتهاوية، إلا عبر موجات متدافعة من الأحقاد والكراهية يختلط فيها الخاص والعام، وشيء من الشماتة بمن “اعطي حكماً فلم يحسن سياسته…”
واللغة موحدة، تسمعها رصينة وبرنة حزن من الملك حسين، وتسمعها متوترة ودفاعية من رئيس الحكومة مضر بدران، وتسمعها حمامسية من النواب والأعيان ورموز القوى السياسية، وهم خليط من قدامى البعثيين والقوميين العرب والشيوعيين ومن الإسلاميين بطبيعتهم (الأخوان وحماس)… كذلك فأنت تسمعها “سادية” ومطعمة بمرارة التجربة الشخصية من كل فلسطيني او أردني ساقه سوء حظه للعمل في الكويت: “فليأخذها صدام!! ولتتهاو هذه الكيانات الكرتونية، ولتندثر هذه الأسر التي سرقت ثروة الأمة وأساءت إلى سمعتها وكرامتها”.
ينسى محدثك أنه يعيش في ظل كيان غير مصفح وتتلاعب به الريح، وإن الحكم في كيانه لأسرة مالكة، وإن كانت فقيرة بحيث تكاد تستمر بالمساعدات التي يأخذ بعضها طابع الصدقة.
لا مجال، في عمان، للنقاش حول “الماضي”، أي حول ما قبل فجر الخميس 2 آب 1990: لكأن الكويت كانت مجرد غلطة سياسية فتم التصحيح، ولو متأخراً… ولكأن مساوئ أسرتها الحاكمة تجب مساوئ الحاكم العراقي الذي خلعها بـ “ثورة” اصطنعها في بغداد. لكإن الإقليمية النفطية الكويتية بكل آثارها الضارة على الواقع العربي (والفرد العربي) أخطر بما لا يقاس من غطرسة صدام حسين ومن تفرده ومن الحيثيات “العراقية” جداً و”الاقتصادية” جداً جداً لقراره النابوليوني باقتحام الكويت، وإن غلف بذرائع قومية.
يبدأ التحفظ، ومن ثم القلق، متى انفجر السؤال المهوّم طوال الوقت فوق الرؤوس: وماذا عن إسرائيل؟! كيف تكون حركتها وفي أي اتجاه؟! وهل ستكون مجرد عصا غربية وأداة أميركية للتأديب؟! وهل ستضرب العراق وفيه، ولحساب غيرها، أم أساساً لحساب مشروعها الإمبراطوري وتسريعاً في شطب الموضوع الفلسطيني؟! وفي هذه الحالة ألا يكون الأردن هو مسرح الحرب – الرد وضحيتها، واين يقف الفلسطيني بالضبط إذا ما وقع البلاد؟! هل يُدفع لأن يقبل بجائزة ترضية تتخذ شكل “الوطن البديل” أم تراه سيرفض مع تفاقم شعوره بالذوبان والاندثار كقوة سياسية؟!
واستطراداً: من هو الحليف الفعلي لصدام حسين في حركته المستقبلية، الملك الهاشمي المهزوز عرشه والمتردي اقتصاده والمتزايد عجزه عن السيطرة، أم “الرئيس الفلسطيني” الذي مهما ضعف تبقى قضبته الأولى والأقدس والأعظم شعبية وتأثيراً؟!
… وبماذا يمكن تفسير هذه “المزايدة” بين الفلسطيني وبين الأردني في تأييد الاجتياح العراقي للكويت، وهل بين دواعيها التنافس على نيل حصة ما من تركة آل الصباح، أو بالأحرى التنافس على موقع نفوذ إضافي في “الكويت العراقية” على حساب “الأصدقاء الراحلين” من آل الصباح؟!
… وهل هي حركة تهدف إلى احتواء الصدمة العراقية والتهيؤ، من بعد، للعب دور الوسيط مع القوى المتضررة منها، سواء أفي منطقة الجزيرة والخليج أم في مراكز القرار الدولي وبالتحديد في واشنطن؟!
في مجال سرد الوقائع التي تصلح قاعدة للتحليل والاستنتاج، يورد بعض المتصلين بالملك حسين ما يأتي:
*إنه حاول جهده تنبيه الكويتيين إلى أن صدام حسين جاد في مطالبه وإنه لن يتراجع، وإنه قد يقدم على أي شيء، بغض النظر عن المخاطر، وإن قراءته الخاصة للوضع السياسي الدولي تجعله يُقدم ولا يُحجم، خصوصاً وإنه مطمئن إلى قدرته على فرض أمر واقع جديد قبل أن يتحرك “الحماة الكبار” للكويت الصغيرة.
*إن الأميركيين هم الذين خربوا المساعي الملكية لحصر الأزمة واحتوائها، ومن ثم محاولة توفير مخرج عربي، حتى لا نقول حلاً عربياً لها. وفي هذا المجال تردد عمان كلها حكاية تبدل الموقف المصري بعد اتصال أجراه الرئيس الأميركي جورج بوش مع الرئيس المصري حسني مبارك، وإن بوش ألح على استصدار قرار إدانة للغزو العراقي من مجلس الجامعة العربية (الذي كان منعقداً) بأي ثمن، وإن الدكتور عصمت عبد المجيد قد أبلى بلاء حسنا لاستصدار هذا القرار وبالسرعة المطلوبة وأعلنه فسقطت الوساطة الأردنية أرضاً.
(للمناسبة: تطالعك الصحف الأردنية يومياً بهجمات حادة ورسوم كاريكاتورية لاذعة ضد القيادة الأميركية، وتقرأ في التعليقات كما في بعض التصريحات الرسمية تعابير لم تكن مألوفة في الأردن أو في الدول العربية ذات الهوى الغربي عموماً)..
ربما لهذا تسمع من بعض المسؤولين الأردنيين اتهامات جارحة للرئيس مبارك، وإدانات قاطعة لبعض أركان نظامه بأنهم “عملاء أميركيون”، وفي بعض الحالات يشار إلى “اختراقات إسرائيلية” لهذا النظام!
تكاد عمان تقول إن واشنطن تريد للأزمة أن تتكامل فصولاً وأن تظل بلا حل، حتى إشعار آخر على الأقل.
وتكاد عمان تقولن بلسان الملك، إن لصدام حسين “ديونه” على الأميركيين، فهو بحربه ضد إيران الثورة الإسلامية قد حمى الاستقرار والمصالح الغربية بأكثر مما فعلت الأنظمة التافهة المحسوبة على الأميركيين والتي كشفت دورهم وفضحتهم حين استعارت منهم العلم الأميركي لتستظل به، ثم حين دعتهم – بعد التدخل العراقي – إلى احتلال الكويت ومحاربة العراق (والعرب) من أجل إعادتهم هم إلى سدة حكمهم في الكويت.
*إن صدام حسين أبلغ الملك حين زاره آخر مرة، يوم الجمعة الماضي، أن القوات العراقية لن تتردد في تلغيم النفط بالكويت، حتى إذا ما وقع عدوان أميركي وإنها أعدت صواريخها لضرب آبار النفط السعودية، إذا ما جاء الغزو الأميركي عبرها… ويرددون في عمان أن صداماً أبلغ حسيناً : “علي وعليهم”!!
*إن إسرائيل لعبت دوراً خبيثاً، وإنها حرضت البيت الأبيض الأميركي على إضافة شرط عودة آل الصباح إلى حكم الكويت إلى مطلب الانسحاب العراقي الفوري وغير المشروط من أراضي “دولة الكويت”. وإن الغرض من إضافة هذا الشرط دفع صدام حسين إلى الرفض، وبالتالي ترك الأزمة تتفاقم واستعداء العال مكله ضد العرب جميعاً، وليس ضد صدام أو حتى ضد العراق وحده.
*إن السعوديين لم يكونوا متحمسن للحل الذي كان يجتهد لتمريره الملك (القمة المصغرة – الرباعية – في جدة)، خصوصاً وإن صدام حسين كان يرفض مبدأ مشاركة آل الصباح فيها.
ويستذكر مشايخ السياسة في عمان أن آل سعود وآل الصباح (ومعظم مشايخ الخليج العربي) ينتسبون إلى القبيلة ذاتها أصلاً (عنزة). فهم أقارب. ثم إن لآل الصباح جميلاً على الأسرة السعودية لا ينسى، فهم قد استقبلوهم وساندوهم أيام حربهم ضد ابن الرشيد، مما عرضهم لغضب هذا الأخير الذي هاجمهم وقاتلهم في عقر دارهم (معركة الجهرا؟!) ولولا الطيارة الإنكليزية والتهديدات المباشرة لكان آل الصباح قد قضوا ضحية انتصارهم لأبناء عشيرتهم المطاردين!
أما المخضرمون فيضيفون أن السعوديين لا يستطيعون التسليم ببساطة بإسقاط أسرة “ملكية” حاكمة على يد نظام جمهوري قام أصلاً على أنقاض أسرة ملكية أخرى (الهاشميون في بغداد)… وإنهم مع إعجابهم بمرونة الملك حسين والتي تمليها عليه ظروفه الخاصة، فإنهم يرون أنهم سيكونون اللاحقين إن لم يتصدوا لوقف الغزو الجمهوري المسلح للممالك والإمارات الغنية.
*وفي الأوساط الأردنية المغلقة تسيطر على الحديث أجواء الريبة في الموقف الفلسطيني، وتكتسي التساؤلات ثوباً من الخبث وسوء الظن والتوجس… فاحتمال قيام أو توطد تحالف عراقي فلسطيني يمتد من الأردن إلى الكويت (حيث يشكل التجمع الفلسطيني ذو النفوذ الواسع نقطة ارتكاز مهمة) هو مصدر جدي للقلق على مصير العرش الهاشمي الذي يعيش في قلب العاصفة، والذي لا يمانع الغرب (ومعه إسرائيل) في التضحية به إذا ما كان “بديله” يضمن تصفية القضية الفلسطينية: إذا كان المطلوب دولة، مجرد دولة، فلتقم مثل هذه الدولة في الأردن (أو بعضه) وليكن سندها الفعلي عراق صدام حسين ومددها الفعلي ما يمكن اقتطاعه لها من ثروة الكويت الهائلة، بموافقة أصحاب الشأن الغربيين جميعاً.
خارج الأوسط الملكية يتخذ الحوار منحى مختلفاً تماماً يتوحد فيه الصوتان الأردني والفلسطيني وراء التمنيات (أو الأوهام) القومية المستعادة من ذاكرة الأيام الخوالي أكثر مما تستند إلى وقوعات اليوم والغد.
وتهتز جنبات المقاهي والمكاتب والمطاعم بأحلام ليالي الصيف: – مع كل التحفظات على صدام وتاريخه فيا ليته لا يتوقف إلا بعد أن “يقش” الخليج كله ويرمي بحكامه جميعاً في البحر!!
وبعد استمطار اللعنات على النظام السعودي “الجبان” و”العميل المكشوف للمصالح الأميركية” ترتفع أصوات المتحمسين (وكأنهم على أبواب مكاتب التطوع) تطالب بالقتال لإسقاطه.
ومع كل نشرة أخبار تبثها إذاعة إسرائيل، أو غيرها من الإذاعات الغربية، متضمنة هجوماً على العراق أو تجريحاً شخصياً بصدام حسين، كمثل وصفه بـ “المجنون” أو بهتلر (وبعضها شبه الملك حسين بأنه موسوليني صغير إلى جانب هتلر صغير). تتزايد العواطف التهاباً وتتماهى الحدود بين الأوهام والوقائع. فالحملة الغربية المسعورة تشهر بكل عربي وتستفز كل عربي، على الاطلاق، لأنها تستهدف الأمة كلها، بتاريخها ومستقبلها… وهذه أعظم تزكية لصدام حسين، والدهاة في عمان يرونها مقصودة، خصوصاً في غياب أي إجراء رادع على الأرض، وبغض النظر عن القدرة وعن التوقيت المناسب.

Exit mobile version