يغلب الخوف الفرح في استقبال الأخبار عن إعادة الانتشار الإسرائيلي في غزة وبعض الضفة الغربية في فلسطين المحتلة.
ربما لأن التجربة اللبنانية المرة مع الاحتلال الإسرائيلي تشهد بأن “الانسحاب” ما كان مرة إلا مقدمة مباشرة لفتنة جديدة، أو لاختراق سياسي أخطر بنتائجه من الوجود العسكري الثقيل الوطأة.
يمكن أن نستذكر الانسحاب – المؤامرة من الجبل، في أواخر صيف 1983، والانسحاب – الفتنمة من شرقي صيدا في أواخر نيسان 1985، كل ذلك في ظل استمرار “الشريط الحدودي” – أي معظم الجنوب والمفاصل التي تربطه بالجبل والبقاع (وتجعله قريباً من طريق دمشق) – رهينة في يده، لاستخدامها في الابتزاز السياسي المفتوح لنتائج اجتياحه العسكري الواسع في صيف 1982.
قبل لبنان كانت هناك تجربة مصر القاسية، وأبسط دلالاتها أن إسرائيل لا تنسحب من “بعض” ما تحتله من هذا البلد العربي أو ذاك إلا بمقدار ما تضمن توغلها في “كل” البلد المعني، بل وفي “كل الوطن العربي”.
فانسحاب إسرائيل من سيناء كلف مصر (والعرب) أن يصل العدو إلى القاهرة، وأن يرتفع علمه في قلب عاصمة المعز، وعلى مدخل جامعة القاهرة، يظلل تمثال “نهضة مصر” ويفقده معناه.
وانسحاب إسرائيل الجزئي من بعض ما كانت احتلته من أرض لبنان كلفه توغلاً إسرائيلياً في قلب قراره السياسي يصعب شطبه أو تجاهل آثاره المعنوية أو المادية… وهذه عملية تفجير الكنيسة في ذوق مكايل – بكل تداعياتها – تكشف كم يمكن أن يكون ذلك التوغل مدمراً، خصوصاً حين يموه نفسه بالأدوات المحلية وبالأغراض السياسية والشخصية المتلفعة بالعباءة الطائفة القذرة.
إن إسرائيل تتقدم متوغلة داخل العرب جميعاً، داخل كل قطر على حدة، ثم داخل مجموعهم…
بل إن العرب يقاطع الآن بعضهم بعضاً، بينما تتواصل معظم حكوماتهم مع إسرائيل، وأحياناً يتواصل واحدهم مع الآخر عبر إسرائيل، إذ لا يجد سبيلاً “أقصر” للتواصل، بمعزل عن النوايا والتبريرات التي تبدأ بالهزيمة وتنتهي بضرورة استنفاذ المستقبل.
إن إسرائيل تحتل الآن أو هي تكاد تحتل مكانها “الشرعي” الذي طالما طمحت إليه: هي بين كل عربي والعربي الآخر.
والنموذج الفلسطيني فاقع وفاضح: فإسرائيل تكاد تكون داخل الفلسطيني، تكاد تشطره شطرين ثم تقيم من نفسها صلة الوصل بين الرأس والعنق، بين العين والهدب، بين البطين الأيسر والبطين الأيمن داخل القلب الواحد.
ولقد غدت اللعبة مكشوفة.
تتقدم إسرائيل داخل العرب، نظاماً نظاماً ثم داخل الأمة جميعاً، ثم يتوسط الأميركي من أجل جولة جديدة في المفاوضات.
وهكذا قد لا تنتهي المفاوضات حول الانسحابات المحدودة من بعض الأراضي العربية المحتلة إلا وتكون إسرائيل قد احتلت كامل ما كان يسمى “الوطن العربي”.
ولعل تبدل التسمية الرسمية لهذا السديم إلى “منطقة الشرق الأوسط” تأتي متواكبة مع “الواقع الجديد”.
ففي “الوطن العربي” لا مكان لإسرائيل، وفي “الشرق الأوسط” لا مكان لوطن للعرب، بل هم أقليات أو جاليات أجنبية أو رعايا لدولة مركزية واحدة هي إسرائيل.
ومن حضر الاجتماع الأخير لمجلس الجامعة العربية، والذي ازدحم بوزراء الخارجية خلافاً للعادة والمألوف (حضر 18 وزيراً دفعة واحدة!!) سمع نمطاً جديداً من النقاش حول الموضوع الأساسي المطروح جدولاً للأعمال: رفع المقاطعة العربية عن الجهات الأجنبية المتعاملة مع إسرائيل.
كان أقصى ما يمكن الحصول عليه: إرجاء البت بالأمر، ريثما تستأنف المفاوضات العربية – الإسرائيلية في واشنطن وتظهر بوادر تقدم فيها. وفي غياب الخوف من العقاب تبقى شيء من الخجل أمكن استثماره لمنع الإجماع على انحراف الأكثرية!
لكن شبح إسرائيل كان يملأ قاعات ذلك المبنى الأبيض والأنيق لجامعة الدولة العربية، أمام “كوبري قصر النيل” الذي يقوم على حراسته أسدان من البرون، والذي أنشئ على أنقاض ثكنات لقوات الاحتلال البريطاني التي استمرت تثقل على قلب مصر وإرادتها نحواً من سبعين سنة ثم لم تخرج إلا بالثورة.
الثورة… تلك هي الكلمة الضائعة، بل الفعل المضيع الذي بسبب غيابه أمكن إسرائيل أن تقتحم النفس العربية وأن تحتلها إلى حد الإلغاء.
من هنا جلوسك متوجساً أمام العلامات المميزة لنشرات الأخبار، والتمهيد لما سوف تسمع مما يسيء، بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والحوقلة وتعبيرات أخرى من نوع: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، رحمتك يا رب، يا ساتر استر، واللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكننا نسألك اللطف فيه.
… وإعادة الانتشار الإسرائيل تتواصل فصولاً، في ما بين المغرب الأقصى واليمن السعيد المرشح الآن لاغتيال جديد بيد المرتدين عن الثورة.
هلا حجزت نسختك من كتاب المستقبل كما يرسمه لك شمعون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد؟!