حتى هذه اللحظة تبدو العودة إلى مؤتمر جنيف تكريساً لنجاح سياسي حققته إسرائيل أكثر منها تكريساً لفشل منيت به السياسة الأميركية في المنطقة العربية.
ذلك إن قرار العودة إلى جنيف لم يكن، ولم يصبح بعد عربياً. فهو لا يتم بناء لطلب عربي، كما إنه لا يتم، بأي حال، على أساس الشروط العربية.
وأميركا لا تماري ولا تداري، بل هي تعلن بأفصح لسان إنها تذهب إلى جنيف مضطرة وفي نفسها أسف وشيء من الحزن. لكن الاضطرار والأسف والحزن وشعور العزيز هنري بالخيبة، كل ذلك مجتمعاً لن يمنعها أو يجعلها تتردد لحظة في تبني الموقف الإسرائيلي والدفاع عنه. فالموقف الإسرائيلي هو – في جوهره – الموقف الأميركي، أما العواطف الشخصية فتذهب جفاء!
معنى هذا إن أميركا “الوسيطة” في تل أبيب لن تكون وسيطة في جنيف، وسترتد إلى موقعها الأصلي والطبيعي كطرف أساسي يحتوي إسرائيل ويحميها ويقاتل معها ونيابة عنها، إذا لزم الأمر،
… هذا إذا افترضنا، جدلاً، إن أميركا قد غادرت هذا الموقع في أي يوم، وإذا صدقنا تلك الأساطير والأوهام والأكاذيب التي روجت ولا تزال تروج عن “تحييد” أميركا، وعن “استفاقة” أميركا إلى “خطر الصهيونية”، وعن الغضب الأميركي على إسرائيل والاستعداد لإعادة النظر إزاءها.. ناهيك بأسطورة الضغوطات الأميركية التي مورست على إسرائيل ثم لم تجد نفعاً بسبب .. “التصلب العربي”!
وإذا كنا لم ننس بعد، فإن مجرد قبول أميركا كوسيطة كان دليل نجاح أميركي – إسرائيلي باهر، كاد يلتهم، طوال الخمسة عشر شهراً الماضية، النتائج الإيجابية لحرب رمضان المجيدة، خصوصاً وقد رافقه ذلك التراجع العربي المفجع كما جسدته ممارسات القيادة المصرية.
وبالدليل الحسي الملموس، وبمنطق أصدقاء العزيز هنري ذاتهم، يمكن تبين فارق القوة بين الموقف العربي والموقف الإسرائيلي في أعقاب الحرب مباشرة، ثم بعدها بخمسة عشرشهراً.
في أعقاب الحرب، وبفضل الزخم الذي منحته نتائجها للموقف العربي أمكن الوصول إلى اتفاق فصل القوات، وانسحبت إسرائيل فعلاً من بعض الأراضي العربية المحتلة. لكنها في الجولة الثانية لاتفاقات فك الارتباطات تصلبت ورفضت الانسحاب العسكري إلا بثمن سياسي لم تستحقه حتى بعد هزيمة 1967.
هل بعد هذا دليل على إن الموقف العربي الآن أضعف مما كان قبل سنة… رغم “الحياد” الأميركي؟
وبالمقابل، هل بعد هذا دليل على إن الموقف الإسرائيلي أقوى مما كان… قبل “الحياد” الأميركي؟!
على إن بعض العرب لا زالوا يستمرنون نتائج اللعبة: يتنازلون أكثر من أجل مزيد من الحياد الأميركي الموهوم، بقصد أن يجعلوا هذا الحياد فعالاً في تأثيره على إسرائيل.. لكن إسرائيل اللعينة تتشدد، فتحرج الأميركان إزاء أصدقائهم العرب، فيهب هؤلاء بما عرف عنهم من نخوة وشهامة لنجدة أصدقائهم الجدد، ويكون الحل أن يقدموا تنازلاً جديداً ليعين أميركا على تذليل العناد الإسرائيلي!
وهكذا تتوضح صورة أميركا الوسيطة: إن مهمتها أن تأخذ من حساب العرب لتضيف إلى حساب إسرائيل، فإذا أعادت “التوازن” إلى سابق عهده الإسرائيلي لم تجد ما تقدمه للعرب غير جنيف لعلهم هناك يتمكنون من إنقاذ ما يمكن إنقاذه!
وإذا لم تحصل تحولات أساسية في الموقف العربي الراهن، وتحديداً في توجهات السياسة المصرية، فإن الذهاب إلى جنيف سيكون محكوماً بالشروط الإسرائيلية: أميركا تذهب “مضطرة”، نتيجة “للعناد” الإسرائيلي، ومصر تذهب مضطرة نتيجة للفشل الأميركي، وبقية العرب يذهبون مضطرين لأن مجمل الممارسات السابقة لم تبق أمامهم خياراً آخر.
… طبعاً إلا الحرب!
لكن السؤال: كيف يذهب إلى الحرب ذلك الذي أفقد نفسه عناصر القوة حتى كاد يعجز عن الوصول إلى جنيف التسوية؟!