طلال سلمان

على الطريق الطوائف المسلحة تخرج وتأخذ “دولها” معها وبيروت تصير “كبرى” بدولة السلام الوطني

ها هي بيروت تصير “كبرى”: تريح كتفيها على السفح من صنين وتتقافز في ملعبها القصبات والضواحي التي كانت بالأمس مرابض للمدفعية أو هدفاً – بالتبادل – لراجمات الصواريخ. ويأتيها عبر بوابة الدامور ضوع العطر متسللاً من بساتين الليمون في صيدا وصور بينما تغسل مياه المتوسط قدميها المجرحتين!
هل هي حرب تخرج من بيروت، أم هي بيروت تخرج في “سيران” السلام على عادة أهلها في نهاية الأسابيع المشمسة؟!
الأخبار المجففة والموحدة في الاذاعات المختلفة مصادر التمويل والتوجيه، وكذا في النشرات المتلفزة التي لا يوقفها عطل طارئ أو غضب طارئ، تفيد إن أدوات الحرب باشرت خروجها “العلني” من المدينة، وإنها سمحت – أخيراً – لما هو طبيعي بأن يمارس حياته العادية… ونتيجة لهذا التسامح هطل المطر وأخذ يغسل وجه الأميرة مزيلاً ما أمكن من التشوهات والأوساخ وأدران زمن الموت، واستعاد الرعد صوته المجلجل ولا أذى، كما استعاد البرق ومضته البكر، واستعادت بيروت اسمها والبعض من أهلها ودورها الذي لا يقدر عليه غيرها.
هل هي الحرب تفر مذعورة أمام هجوم السلام، بعدما سقط “بطل أبطالها” من شاهق الوحدانية والجبروت في الملجأ الجمهوري ببعبدا إلى ظلمة النسيان والخيبة والعار في مهجع الشرف الفرنسي بدارة السفير إلا في مار تقلا؟!
هل أخلت الطوائف المسلحة المكان لدولة كل الطوائف باعتبارها الوريث الشرعي الوحيد على قيد الحياة المتحدرمن صلب دولة الطائفة العظمى، مكتفية من مغانم الحرب المستحيلة بتقاسم الأسلاب في ظل السلام الممكن؟!
ما يهم إننا نشهد بداية عودة الروح إلى المدينة الأميرة: تتهاوى الأغلال، وترفع السواتر والدشم التي كانت توقف الدورة الدموية فتصاب بالتصلب أوردتها والشرايين، ويتسلل مع الليل حراس الحرب الذين كانوا يتخذون من السكان رهينة ويطلبون أجنتهم الآتين فدية لهدنة قصيرة!
ها هي بيروت تصير “كبرى”… بمجرد المباشرة بإخراج السلاح والمسلحين منها!
لكأنهم وهم فيها كانوا يصغرونها، يشطرونها ويتقاسمون جسدها حياً حياً وعمارة عمارة ومزبلة مزبلة. ومع رحيلهم عنها وعودتها إلى الدولة وعودة الدولة إليها تمطت وفتحت عينيها الذابلتين وهزت رأسها لتخرج من ذهولها فتماوج شعرها البيدر وحمل البحر إلى عيتات وسوق الغرب وعاليه وبيت مري وبكفيا حتى بيت الكوكو!
إذن، مع عودة الدولة عادت الوحدة فعادت بيروت.
فبيروت والدولة وجهاً العملة: غيبت الدولة عندما اغتيلت وحدة بيروت وشطرت فاندثرت كعاصمة، كقلب، كمنتدى فكري، كشارع سياسي، كمطبعة وجامعة وكتاب وصحيفة، كمركز إشعاع وتنوير ومرصد للتحولات في العالم كله… وها هي تطلق بعودتها بشارة عودة الدولة، بشارة انتهاء زمن الحرب وتؤذن كالديك لانبلاج فجر السلام.
أية بيروت هذه العائدة من الجحيم؟! وأية دولة هذه الآتية من رحم الحرب الأهلية باسم اتفاق الطائف وعلى نيته؟!
إزالة الدشم ، رفع السواتر، تفجير الألغام، فتح الطرقات، والكف عن مصادرة أشعة الشمس والهواء والصحف عند “المعابر”، وإسقاط “الحدود” التي كانت تصنف اللبنانيين شعوباً وقبائل شتى: كل ذلك في طريقه إلى الماضي مفسحاً في المجال لقدوم الدولة.
هل جاء زمن الحوار؟!
هل سقطت الأسوار التي كانت تمنع التواصل وتعطي للأخوة من الجانبين ملامح الغيلان والوحوش الكاسرة؟!
هل عادت بيروت مدينة الجميع، عاصمتهم الواحدة وحصن دولتهم الواحدة؟
هل اعترف الكل بالكل؟! هل قبل كل بالآخرين وسلم بوجودهم مرة وإلى الأبد بوصفهم أهل البلاد وليسوا عابرين أو طارئين، أو سياحاً أو غزاة ومحتلين جاءوه من صحراءالرمال أو على ظهر بوارخ كالتي تمخر الآن عباب المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج العربي؟!
هل اقتنع كل لبناني إن لا حياة له من دون سائر اللبنانيين وخارجهم؟ هل تغلغل اليقين في “عقول” الطوائف بعد الأشخاص؟! وهل انتهى عصر الخوف عصر كل مواطن خائف وكل مواطن مخيف، هو خائف “منهم”، “وهم” خائفون منه؟!
هل سلم الكل بأن لا مجال لأن يحمي أحد نفسه بالسلاح، من فوق رأس الدولة وبادعاء النيابة عنها، ولا لأن يستخدم الدولة لإخافة الآخرين وإخضاعهم، ولا لأن يستعين بسلاح الخارج (ولو عدواً) على دولته وأخوته الأشقاء؟!
هل انتهى زمن الساحة لكي يمكن أن تعود بيروت وتكون العاصمة؟!
… والساحة جبهة مفتوحة لحروب مفتوحة، الكل فيها يقاتل الكل، وتتداخل المصالح الذاتية والطائفية والإقليمية والدولية بحيث يصبح الحاجز تخماً لمنطقة نفوذ هذه أو تلك من القوى الداخلية أو الخارجية.
… وفي الساحة ترفع الطوائف أعلامها وتغيب علم الدولة. وأعلام الطوائف تختزن وتختزل مصالح قوى متعارضة، وتتحول بالتالي إلى رايات لفصائل ضالعة أو متورطة في الحرب الأهلية، واسماء حركية للقوى الممولة والمنتجة لهذه الحرب والمستفيدة منها.
… وفي الساحة يتحول الكل إلى غرباء، ينكر الأخ أخاه تحت ضغط المصلحة أو الخوف، وينتفي الحوار، فكيف بغير القذائف والصواريخ يمكن أن يكون حوار الطرشان؟!
شرط الخروج من الساحة والعودة إلى العاصمة أن يسلم كل بوجود الآخر، أن يعترف كل بالآخر، أن يقبله كما هو، وأن يتعاون الطرفان لتحديد أرض اللقاء الدائم بينهما مهما اشتدت الخلافات.
وارض اللقاء هي الدولة.
فأية دولة هي هذه التي تحاول بيروت الكبرى أن تقدم نموذجاً لها؟
على عتبة الحوار العتيد يمكن أنيقال:
سيظل الشعور بالهزيمة قائماً عند جمهرة المسيحيين في لبنان ما لم تعوضه الدولة بحضورها الفاعل والعادل ما يفتقده من أسباب الأمان والاطمئنان إلى الغد، لقد هزمته غربته عن الدولة وغيبته عنها أو خروجه عليها مندفعاً – بغريزته المهتاجة – وراء المتطرفين من باعة أوهام المجتمعات الصافية (طائفياً) والدول الدينية.
ولن يتطهر شعور المسلمين من الزهو وادعاء الغلبة إلا بقدر ما يستقر اليقين بأن النصر كان للدولة وليس للطائفة، وإن اقتراب موعده مع الانصاف لا يعني قهر أخيه الذي كانت الهيمنة تمارس باسمه في حين إنه مقهور آخر، وإن اختلفت أسباب القهر ومصادره.
فلم يتول اميل لحود (الماروني) قيادة ميليشيا إسلامية (تدعمها سوريا) لمقاتلة ميليشيا مارونية يقودها ميشال عون (وتدعمها فرنسا والفاتيكان وسائر من تبقى من الصليبيين).
وبالتالي فليس ثمة نصر إسلامي على مشروع مسيحي، بل هي الدولة من اضطر إلى القتال دفاعاً عن نفسها، والنصر للدولة والهزيمة لمن خرج عليها شاهراً سلاحه، بغض النظر عن هويته الطائفية.
ولقد كان ممكناً أن يكون “المهزوم” في جملة المنتصرين، أو في طليعتهم، لو إنه بقي في الدولة ومنها ولم يخرج منها ثم عليها.
لقد انتصرت الدولة في “المسلم” انتصرت من داخل جيشها وتحت علمها، وليس تحت أعلام ميليشيات الطوائف (إسلامية أو مسيحية) ولأهداف قياداتها التاريخية الفذة.
وبقي أن تنتصر الدولة في “المسيحي”، أو ينتصر المسيحي عبر الدولة على الأوهام التي زرعت وروج لها المنتفعون بالحرب الأهلية.
فتلك مقدمة لا بد منها لكي يحل التوازن محل التقاسم أو التناتش، والاصطراع على أسلاب الدولة، ولكي تحل العدالة محل مطلب المشاركة، بحيث تستقر صيغة الحكم وتقوم دولة كل الطوائف تمهيداً لقيام دولة كل اللبنانيين.
كم “جيشاً” كان يلغي “الجيش” ويحل الطائفية محل الوطنية والجهوية محل الانتماء القومي؟!
كم “دولة” كانت تتوزع أرض بيروت الصغرى فتلغي دولة لبنان الكبير؟!
لكم هي واسعة الطوائف اللبنانية، ولكم هي متسامحة إزاء الآتي من البعيد بينما هي ضيقة الصدر مع القريب!
لكن الطائفة مثل الأوكورديون، يمكنها أن تكش فتقيم في زاروب واحد دولتها الخاصة، برئيسها والمؤسسات، بجيشها وشرطتها وإدارتها الموحدة اللون والعرق والجنس.
ولأن الطائفة أمة تامة وذات وجود “دولي” معترف به (مثل حدودها!!) فسرعان ما كان يتم تقنين الانقسام وتدويله بحيث تصبح البلاد أمماً منفصلة ومقتتلة بسلاح متعدد الجنسية. فكل طائفة أمة، ولكل طائفة تحالفاتها الإقليمية والدولية… لذا كانت الحروب في جانب منها، أممية!
والآن، هل بمجرد “جلاء” جيوش الطوائف تستتب الأمور للجيش… جيش الدولة – الوطن؟!
هل بمجرد إزالة اللافتات والشعارات والسواتر التي كانت تتحصن خلفها “دويلات” الطوائف تنبعث الدولة وتنهض لممارسة صلاحياتها وكأن شيئاً لم يكن؟! أم إن كل طائفة هجرت “دولتها” مؤقتاً إلى ملجأ، في انتظار ما سيكون، فإن لزم الأمر أعادتها وعادت معها مغيبة بيروت والدولة.
هل التسوية ممكنة حقاً، على قاعدة اتفاق الطائف، وهل هي كافية فعلاً، خصوصاً وإن سوريا هي الضامن والكفيل؟؟
وهل الحملة الاعلامية على التجاوزات في المتنين ستظل في حدود “البروباغندا” ام ستتسع لتحقق أغراضاً سياسية أخبثها التشهير بضامن التسوية وراعي تنفيذ اتفاق الطائف؟!
وهل “تباشير” الكلام الطائفي الصريح عن “قهر المسيحيين” ومعاملتهم كطرف مهزوم، هي مجرد تكتكات لتحسين الموقع التفاوضي وحماية “الامتيازات إياها”، أم إنها استراتيجية كاملة تبدأ بالابتزاز السياسي مموهة بمطالب طائفية لتنتهي بحرب طائفية مموهة بشعارات سياسية تخلخل التسوية الجاري بناؤها على قاعدة اتفاق الطائف وبضمانة سوريا دائماً؟!
لقد أدار العدو الإسرائيلي وجهه خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، والمهم إنه منهمك في التدريب على لبس الكمامات الواقية من الغازات السامة، بحيث لا يملك فائضاً من الوقت لأكثر من استئصال شعب فلالسطين واجتثاث الانتفاضة ولو بإبادة المدن والقرى والمزارع وانطلاقاً من القدس الشريف.
اليوم يخاطب العدو الإسرائيلي اللبنانيين وسائر العرب من جزين ملوحاً بقدرته على تخريب أي حل، ودائماً بالاستناد إلى الطائفية كمؤسسة سياسية معادية بطبيعتها لما هو وطني وقومي.
فكيف يكون الرد، ومن أين مستلزمات الصمود والدولة بعد لم تحضر ولم تستعد عافيتها؟!
بهذا المعنى فإن بيروت الكبرى معركة قومية، والنجاح فيها انتصار على خطط العدو وليس فقط على الطائفية وميليشياتها الخارجة مصحوبة بلعنات ضحاياها الكثر والممثلين لجميع الطوائف… من دون استثناء!

Exit mobile version