لم تقم القيامة، بعد، ولم يسقط الكون على رؤوسنا، ولم تغير الشمس مواعيدها، فهي ما تزال تطل لتغمر الدنيا بالدفء والنور، كل يوم، وما تزال تذهب من الشرق في اتجاه الغرب، ثم تعيد الكرة في الفجر التالي.
كذلك فإن البحر الأبيض المتوسط ما يزال بحراً وأبيض ومتوسطاً، وما يزال الأسطول الأميركي السادس طارئاً عليه، وغريباً فيه مثل أي غاز مدجج بالسلاح لقهر إرادة الشعوب الأخرى.
إن خليج سرت باق، حتى هذه اللحظة، وحتى الغد وبعد الغد، وإلى آخر الزمان، جزءاً لا يتجزأ من الجماهيرية العربية الليبية، شطآنه أرضها وحدها، ومياهه بحرها هي، والجو من فوقه بعض أجوائها هي.
ولا بأس أن يكون توكيد هذه الحقائق التاريخية والجغرافية الخالدة قد اقتضى خسارة طائرة أو طائرتين، فالذي أراد أن يمتحن “رد فعل القذافي” قد حصل على الجواب الذي يطلبه، وهكذا أعلن – على الأقل – انتهاء مناورته السياسية – الحربية التي استخدم فيها الأسطول السادس وطائرات “التومكات” وأنور السادات ونميري وأبواقه جميعاً في المنطقة والعالم.
لقد جاءه الرد قاطعاً في وضوحه، برغ أن معمر القذافي كان خارج ليبيا، ثم استمر خارجاً يتابع جولته المقررة، مطمئناً إلى أن غيابه لن يؤثر لا في صدور الرد ولا في قوته ولا في درجة وضوحه.
وبعد اليوم لن يستطيع ريغان ولا أي حاكم أميركي آخر أن يناقش ليبيا في تابعية خليج سرت وهل هو خليج وطني أم خليج تاريخي أم بحر إقليمي.
كذلك فلن يستطيع الكثير من حكامنا العرب أن يخوفونا من فكرة – مجرد فكرة – الاختلاف مع الولايات المتحدة الأميركية، أو الخروج على إرادتها السامية.
ولسوف تسقط، بطبيعة الحال، النظريات والمقولات العديدة حول جبروت واشنطن وقدراتها العجائبية في إسقاط من تريد من الحكام، ورفع من تريد من عملائها إلى المراتب القيادية في أربع رياح الأرض، بغض النظر عن إرادة الشعوب وعن حقها في اختيار مصائرها ناهيك، بأنظمة الحكم في بلادها.
ووارد طبعاً أن يتنطح بعض “المتأمركين يساراً” أو “المستيسرين على الطريقة الأميركية” ليقول ببجاحة: تتحدثون وكأن ريغان قد سقط فعلاً أو أنه على وشك السقوط. إنه جبار عات، وقد قدم هذا الاستعراض العسكري في خليج سرت ليثبت قدراته وقد أثبتها”!
والجواب: إن أحداً من العرب، ونعني الوطنيين والقوميين والتقدميين والثوار لم يرفع شعار إسقاط ريغان، ولا جعله هدفاً ومهمة نضالية، العكس هو ما كان هو القائم حالياً، وما معركة خليج سرت إلا دليل حسي على واقع حسي مؤداه أن ريغان هو الذي يهدد، ومخابراته هي التي تعد مؤامرات الاغتيال، وأتباعه في المنطقة من السادات إلى حكام إسرائيل إلى “عرب أميركا” هم الذين يحاولون القضاء على كل التماعة ضوء في دنيانا.
… ولقد فشل ريغان، وفشل هؤلاء العضاريط الصناديد معه،
فشلوا ليس فقط لأن القذافي لم يسقط، بل قبل ذلك لأن القذافي ومعه من معه من العرب، وشعبه أولاً وأساساً، لم يخافوا من احتمال المواجهة، ولم يترددوا في قبول التحدي، ولم يطاطئوا رؤوسهم للانضواء تحت راية كامب ديفيد الأميركية.
إن الحرب، أي حرب، تستهدف أساساً قهر إرادة الخصم أو العدو، وإجباره على تغيير نهجه وسياسته تحت ضغط السلاح.
وليس بين طموحات القذافي بالتأكيد ولا بين طموحات قوى التغيير والثورة في الوطن العربي، أن يلحق هزيمة عسكرية بالولايات المتحدة الأميركية وأن يستولد من هذه الهزيمة نصره السياسي الكبير.
ولكن القذافي ومن معه من العرب خرجوا من معركة خليج سرت منتصرين لأنهم لم يسمحوا لريغان – بكل أساطيله – أن يقهر الإرادة العربية، ولأنهم اتخذوا ذلك القرار التاريخي المجيد بالمواجهة، ولأنهم “أطلقوا الرصاصة العربية الأولى، على قوات أميركا، على رأس الإرهاب وعدوة الشعوب، كما وصفها بحق ياسر عرفات.
النصر هو القرار.
النصر هو الصمود والمواجهة والطلقة الأولى.
وبعد ذلك ستتوالى الطلقات، مهما بدا “الكاوبوي” جباراً عتياً.
و”الطلقة الأولى” هي التي تفتح – في العادة – الباب لحالة النهوض الوطني والقومي، وهي التي تحدد طريق الغد.
ولن نحتل فيلادلفيا، أو سان فرانسيسكو، أو “واشنطن دي – سي”، ولكننا سنقاتل حتى لا تحتل واشنطن ذرة رمل واحدة من أرضنا، وحتى تتحرر آخر ذرة من إرادتنا.
ولن نحتل فيلادلفيا، أو سان فرانسيسكو، أو “واشنطن دي – سي” ولكننا سنقاتل حتى لا تحتل واشنطن ذرة رمل واحدة من أرضنا، وحتى تتحرر آخر ذرة في إرادتنا.
والطلقة الأولى هي البداية فقط في حرب مفتوحة.
وتقتضينا الأمانة أن نعترف أن الأميركان هم الذين بدأوها وهم الذين تركوها – بقرار – مفتوحة حتى هذه اللحظة، يساعدهم في ذلك العجز العربي المريع الذي يحمل ألقاباً مفخمة عديدة.